محزن أن يكتب أحدنا مدينا مهنته أو ربما زملاءه أو حتى بشكل غير مباشر نفسه، ولكن ماذا تفعل عندما تتكرر الحكايات الصحافية المحبوكة برداءة أو حتى تلك التي يحاول بعضهم إقناع المتلقي بأي طريقة أو شكل؟ ماذا تفعل؟ هل تقول ربما خانتهم المعلومات أو لم تصلهم أو لم يعرفوها أو... وكلها من فعل شياطينهم؟!! أم تنبش ما تحت الخبر أو المقالة أو التحقيق الاستقصائي؟!! أم حتى التقرير الإخباري الذي يمرر بين رزمة من الأخبار المكتظة؟
ربما هذا ما كنا نعمل على فعله والأحداث تصطادنا أو تخرق اللحظة أو تبعد المسافات حتى سقطت الحكاية خلف الحكاية منذ السابع من أكتوبر، وهم وكثير غيرهم يسردون حكايات وروايات في معظمها تسقط في خانة الأكاذيب، لكنهم لا يعتذرون معبرين عن تسرعهم في نشرهم أو خطئهم في حساباتها أو حتى قلة معرفتهم أو ثقتهم بالمصادر، نعم المصادر التي هي الأخرى لا تلبث أن تتضح عندما ينشغل الواحد منا في بحث ولو بسيط عمن هم خلف كل هذه السرديات القاتلة، وما هي إلا بضع ساعات من البحث حتى تنكشف الحقيقة الموجعة التي تؤكد أنهم كاذبون أو أفاقون أو مضللون أو حتى مرتزقة برتبة إعلاميين.
بدأت قبل 7 أكتوبر لكنها فيما بعدها أصبحت النمط السائد، أي أن تكذب وتلفق حكاية لا يمكن أن يصدقها عارف أو حتى عاقل، وما هي إلا لحظات حتى تصبح هي السرد الدائم المنتشر من عناوين الصحف ونشرات الأخبار و«الترند» على وسائل التواصل.
بعدها بلحظات أو أيام وبعد جهد جبار من المخلصين للمهنة تنتشر أخبار الكذبة أو الكذب الممتد عبر القنوات والجرائد والحوارات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والعربية أيضا، ثم تختفي الحكاية أو تُنسى ولا يعاد ذكرها إلا بعد حين من بعض الذي اعتمد فكرة «اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس» وهم مقتنعون جداً بأن كذبتهم قد وصلت إلى ما بعد تلك الحدود الجغرافية والثقافية والدينية والأيديولوجية وحتى الأسوار التي تفصلهم عمن يعاديهم أو ينظر لهم بتوجس.
حكاية قتل الأطفال واغتصاب النساء والفتيات من المقاومين في السابع من أكتوبر كاذبة ثم حكاية أن المقاومين «الإرهابيين» يختبئون في المستشفيات والجوامع هي الأخرى كاذبة، والحكايتان ابتدأتا من عناوين صحف أو برامج تلفزيونية في أكثر تلك الجرائد أو المحطات «عراقة»!! من «نيويورك تايمز» حتى الـ«بي بي سي» وما بعدهما أو بينهما!!
وفي حين هم يكذبون ويؤلفون كان الصحافيون والصحافيات الفلسطينيون يدونون الحقائق كما هي دون رتوش أو تلاوين أو حتى مبالغة هي المرة الأولى التي لا يقوم فيها الإعلامي بذرف دمعه على أهله على شاشات أو منصات أو صحف، بل هي المرة الأولى التي قام فيها كثيرون بتصوير ونشر معاناتهم وموتهم أو قتل أحبتهم وإبادتهم في اللحظة نفسها، وعلى هواتفهم حتى تسقط من أيديهم إما لأنهم أصيبوا وقتلوا أو لأنهم فضلوا الجري استجابة لصراخ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال الموجوعين، كم هو الوجع حاضر في كل دقيقة في غزة وكل فلسطين، الوجع المتنقل من خان يونس إلى شمال غزة أو جنوبها إلى مخيماتها وشوارعها وحواريها إلى جنوبها بل جنوب الجنوب حتى رفح!!!
كثر كذبهم في حين الصورة واضحة كالشمس بل ربما أكثر منها، لكنهم لم ييأسوا بل استمروا في الروايات الكاذبة حتى قالوا إن موظفين من الأونروا ساهموا في القتل في السابع من أكتوبر، فقامت المنظمة الدولية سريعا بفصل البعض والتحقيق في الرواية بعد ذلك فيما الأصل أن يتم التحقيق خصوصاً أن الرواية جاءت من وسيلة إعلامية ليست مستقلة، وأين هي الوسيلة الإعلامية المستقلة الآن في أميركا أو أوروبا أو كل العالم، لقد دمروا كل ما تبقى لدينا من إيمان أنهم محظوظون بإعلام مستقل وحرية في التعبير!!!
واكتشفنا أنهم كذابون إما أنهم يعرفون بذلك أو يوهمون أنفسهم وفي الحالتين لا يعنينا شيء سوى أن إعلامهم، برواياته كل رواياته، منحاز ومتعصب وعنصري، والأهم أنه كاذب وهنا سقطت مقولتهم حول الحيادية التي لطالما تشدقوا بها، وإذا كان كل ما قالوه ونشروه منذ السابع من أكتوبر حتى الآن ثبت أنه كذب في كذب، فكيف صدق الجميع رواية الصهاينة النازيين الجدد حول موظفي الأونروا؟ إلا إذا كان المراد هو الاستمرار في تحقيق هدفهم، وهو الإبادة الجماعية ووضع حد حتى للمتيسر من الدعم الإنساني للضحية، أي الفلسطينيين في بلدهم فلسطين، لقد كذب الإعلاميون ولو صدقوا!!!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية