مرّ نحو ربع قرن منذ أن أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قرارا فعلياً بشأن الانتخابات الرئاسية، وكان ذلك عام 2000 في قضية جورج بوش الابن ضد آل غور، فألغت إعادة فرز الأصوات بولاية فلوريدا، في خطوة أفضت بنهاية المطاف إلى فوز بوش بالرئاسة.
وتستعد أعلى هيئة قضائية أميركية، الآن، للتدخل مباشرة في انتخابات أخرى، حيث ستقرر ما إذا كان من الممكن طرد الرئيس السابق دونالد ترامب من السباق الرئاسي في كولورادو. وقد أثارت هذه القضية، التي تقدّم مرافعاتها الشفهية اليوم، جدلا حول الديموقراطية الأميركية، وألقت المحكمة العليا في عاصفة سياسية أخرى.
واندلعت هذه القضية عندما رفع ناخبون من كولورادو العام الماضي دعوى ضد ترامب واتهموه بالمشاركة في «تمرّد» 6 يناير2021، عندما اقتحم أنصاره مبنى «الكابيتول»، في محاولة لوقف التصديق على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية، وطالب المدعون اعتبار الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الأوفر حظا غير مؤهل للترشح لمنصب الرئاسة.
وتم رفض العديد من القضايا المماثلة أو إسقاطها أو تعليقها، لكنّ المحكمة العليا في ولاية كولورادو قررت، في ديسمبر الماضي، استبعاد ترامب من الاقتراع في الولاية، بسبب انتهاكه البند الثالث من التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي، الذي يحظر على أي مسؤول منتخب شارك في أي تمرّد تولي أي منصب رسمي، ووصفت حملته هذا الحكم بأنه «خاطئ تماما».
وستكون هذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها المحكمة العليا تأثير هذا الإجراء الدستوري، الذي تمت صياغته في الأصل لمنع «الكونفدراليين» الجنوبيين من تولّي مناصب بعد الحرب الأهلية، على مرشحين للرئاسة اليوم، فيما تشمل القضية العديد من المسائل القانونية، بما في ذلك ما إذا يمكن لمحاكم الولايات، وليس «الكونغرس»، تحديد أهلية المرشح الرئاسي، وما إذا كان من الممكن تطبيق «البند الثالث» على الرئاسة، وما إذا كان ترامب قد شارك في التمرد.
في هذا الصدد، ذكر الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو، عزيز هوك، أنه «ليس هناك شك في أن تلعب الأيديولوجية، ضمن اعتبارات أخرى، دورا في قرار القضاة»، محذرا من أن «هذه المخاوف مؤثرة، بما في ذلك المخاوف بشأن التصور العام للمحكمة وتدخّلها المحتمل في العمليات الديموقراطية».
وقد انهالت على المحكمة العليا مذكرات دفاع من كلا الجانبين، مما يؤكد خطورة هذه القضية، التي عززت الانقسامات الأيديولوجية. فقد وقّع السيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس تيد كروز على مذكرة مع 177 عضوا في «الكونغرس» لدعم ترامب، قائلًا إن قرار كولورادو يمثل «خطرا جسيما على الديموقراطية».
وتسببت هذه القضية في انشقاقات حزبية، حيث قدمت مجموعة من كبار المسؤولين الذين عملوا في الإدارات الجمهورية الـ 6 الأخيرة، بما في ذلك القاضي السابق مايكل لوتيغ، والقائم بأعمال المدعي العام الأميركي السابق، ستيوارت جيرسون، مذكرة لدعم كولورادو، وأكدوا أن ترامب «حاول عمدا انتهاك الدستور» عندما حرّض «قوة مسلحة» على منع انتقال السلطة.
في المقابل، شكك بعض أشد منتقدي ترامب، بينهم المدعي العام السابق بيل بار، في قرار محكمة كولورادو «التي أساءت تفسير البند الثالث»، داعيا إلى إلغاء هذا القرار «بغضّ النظر عن سلوك ترامب في 6 يناير».
من جهته، قال الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، مايكل كلارمان، إن «الديموقراطية توجد إلى حد كبير في صناديق الاقتراع»، مؤكدا أن «الحزب الجمهوري يشكل تهديدا للديموقراطية، لكنّ المحكمة العليا ليست المؤسسة المناسبة لقول ذلك، إذ على الشعب أن يقول ذلك بنفسه».
وظلت إدارة بايدن صامتة إلى حد كبير بشأن هذه المسألة، لاسيما أن دعم محكمة كولورادو يمكن أن يعرّضها لانتقادات حول الحياد أو التدخل في الانتخابات، فيما سيشكّل تأييد هذا الحكم حجة قانونية رابحة لمعارضي ترامب لمنعه من المشاركة في الاقتراع بولايات أخرى.
ولعل تعقيد هذه القضية وحساسيتها وعدم وجود سابقة لها، سيدفع بالتأكيد القضاة، الذين ينقسمون بين 6 محافظين و3 ليبراليين، إلى التصويت على أساس أيديولوجي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ترامب سبق أن عيّن 3 منهم، وهم إيمي كوني باريت، وبريت كافانوغ، ونيل غورساتش.
كما تمثّل هذه القضية تحديا شائكا لرئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، الذي يسعى للحفاظ على حياد المحكمة، خصوصا أن قراراتها لطالما أثارت نقاشات أيديولوجية وأحيت التساؤلات حول ما إذا أصبحت المحكمة مسيسة للغاية، مثل الحكم الذي أصدرته عام 2022، الذي كرس الحق الدستوري في الإجهاض لأول مرة منذ نحو 50 عاما.
كما يمكن للمحكمة العليا أن تواجه قضيتين أخريين على الأقل مع عواقب على ترامب، فقد رفضت محكمة استئناف فدرالية في مقاطعة كولومبيا، أمس الأول، محاولته المطالبة بحصانة رئاسية في قضية جنائية اتحادية تتعلق بالانتخابات الرئاسية لعام 2020، والتي من المحتمل أن تنتهي في المحكمة العليا. كما وافقت المحكمة في المقابل على الاستماع إلى قضية مركزية في لائحة الاتهام لترامب، إضافة إلى مئات الملاحقات القضائية بخصوص أحداث 6 يناير. في هذا السياق، أكد الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة ميريلاند، مارك غرابر، أن «الخاسر سينظر إلى أي قرار (تتخذه المحكمة العليا) على أنه قرار سياسي»، مضيفا: «لا يوجد طريق أمام المحكمة لتجنّب الانتقادات، والسؤال هنا هو ما إذا يمكن (لرئيس المحكمة) روبرتس تشكيل أغلبية من الحزبين في هذا الشأن».