عمل الأستاذ السوري اللبناني «ندرة الكلاس» مدرسا للغة الفرنسية في بعض ثانويات الكويت سنين طويلة ما بين 1980-2017 أي نحو أربعة عقود، ثم «راودته» كما يقول فكرة كتابة مذكراته عن هذه التجربة بما فيها من حلاتها ومرها، هي مجرد خواطر، بعض غيض من فيض على مدى ستة وثلاثين عاما ونيف من خبرة التدريس في مدارس ثانويات الكويت، مرورا بالانقطاع المؤقت الذي فرضه الغزو الغاشم عام 1990.
قام الأستاذ «نُدرة» بما لم يقم به آلاف المدرسين ممن قدموا للكويتيين خبرتهم ومعارفهم بالتدريس، ولخص تجربته في كتاب بعنوان «مذكرات مدرس وافد»، هكذا بكل صدق نية وتواضع، نشره عام 2018 في الكويت مع تقديم للإعلامي اللبناني المعروف «د.إنطون بارا»، الذي أشاد بمهنة التدريس وما تؤديه من خدمات جليلة، واشتكى بلسان المدرسين من جور الزمان عليهم وقلة حيلتهم، ودافع في المقدمة عن اللغة العربية كي لا تنفرد الفرنسية بالثناء كله، وقال مشيداً بلغة الضاد إن العربية من أغنى اللغات وأجمل لغات العالم لما تملكه من نغمة وإيقاع وسلاسة ولاحتوائها على 15 مليون مرادف فقط وقدرتها على الاشتقاق.
درس الأستاذ نُدرة الكلاس الفرنسية في جامعة دمشق خمس سنوات وسنة إضافية للتأهيل التربوي، قبل أن يمر وهو في دمشق بالسفارة الكويتية عام 1981، ولم يكن ذلك تلقائيا فهو يقول تعمدت أن يكون طريقي من جنبها فرأيت تجمهراً أمام السفارة وعندما وصلت لأستكشف ماذا يحصل قرأت لائحة معلقة على جذع الشجرة أمام باب السفارة مكتوب فيها (نطلب مدرسين للعمل في دولة الكويت مع تأمين بطاقة الطائرة ذهابا وعودة وسكن حكومي).
فقلت في نفسي هذا ما أبحث عنه العمل الدائم وبمغريات فائقة وراتب عال جداً وخارج سورية، وهذا ما كنت أحلم به أيضا، فقدمت طلب تدريس وفي الغد أتيت مبكراً منذ الصباح أيضاً إلى السفارة لأفاجأ بأن اسمي مكتوب من الناجحين، ودخلت السفارة لتكملة الإجراءات، وقيل لي بأنني يجب أن أكون في الكويت قبل 12/ 9/ 1981.
مذكرات الأستاذ ندرة الكلاس كما سيتبين لنا في الصفحات القادمة مكتوبة بدرجة كبيرة من التواضع والشفافية والصراحة.
كيف كانت صورة الكويت في تلك الأيام؟ يورد الأستاذ الكلاس إحداها فيقول عن مُدرِّسة سورية:
«دار حديث جانبي مع زميلة كانت تدرس معي ونذاكر سوية، فقلت لها:
- لقد حصلت على عقد عمل بالتدريس في دولة الكويت.
- وأنا أمضيت أربع سنوات بالتدريس في دولة الكويت سابقا. أجابتني.
- وكيف ذلك؟ سألتها.
- أنا معلمة وذهبت بنظام الإعارة أربع سنوات ثم عدت. قالت.
- طيب أنت تعرفين الكويت وقد عشت فيها. قلت لها.
- سوف ينظرون إليك أنك ذاهب لتجميع الفلوس، ولا شيء غير ذلك. قالت لي.
فكرت بذلك ملياً، وقلت كيف أن نظرة الناس ضيقة، فبالنسبة لي هو إيجاد وتأمين تعمل، وهذا ما كنت محروماً منه وهو أبسط الأمور لبعض الناس، أما بالنسبة لي كان شيء من الحلم تأمين عمل، وقد حصلت عليه». (ص26).
في يوم السفر 12 سبتمبر ركب الكلاس الطائرة من مطار دمشق الدولي متجها الى دولة الكويت لتبدأ مرحلة جديدة من حياته تمتد قرابة أربعين سنة في مدارس الكويت.
تجول الأستاذ الكلاس المتلهف لمعرفة كل ما يساعده على استقبال ومعرفة المرحلة الجديدة، ويقول «وأثناء تجوالي بداخل الطائرة تعرفت على مدرس جديد مثلي للغة الإنكليزية اسمه وليد اللاطه من مدينة حلب، أمضيت فيما بعد معه ثلاث سنوات في سكن المدرسين العزاب وصرنا من أعز الأصدقاء بسبب هذا التعارف البسيط».
كانت هذه الزيارة أول احتكاك للأستاذ الكلاس بالطقس الخليجي وبقايا صيف الكويت في أواسط سبتمبر حيث لا يخف إلا القليل من حرارة يوليو وأغسطس بعكس دول الشام التي يبدأ فيها جو الخريف.
يقول: «هبطت بنا الطائرة في مطار الكويت عند المغرب لأتفاجأ عند النزول من سلم الطائرة بأن الجو حار جداً على غير ما كنت أتصور، فالواقع غير الكلام والخيال، الجو يعطي رائحة حرارة ولهيب النار ونحن في شهر أيلول (سبتمبر) فهو شبيه بحرارة جو التنور عندما كانت أمي تخبز على التنور وأنا أمر بجانبه، والآن أنا أصبحت بوسط هذه الحرارة ولأول مرة أواجه هذا المناخ». (ص27).
قام مسؤولو استقبال وزارة التربية بنقل الأساتذة القادمين من دمشق الى سكن الضيافة بالشويخ، وخرج الأستاذ «ندرة» في الساعة الثامنة مساء «لأتمشى خارج السكن» كما يقول، «فشعرت أيضا بحرارة الجو العالية جدا وراودتني الفكرة بأنني لن أستطيع العيش في هذا الجو الجار، والعودة أفضل من البقاء في وسط هذه الحرارة، ولكني صبرت على ذلك لأجد نفسي خدمت لحوالي ست وثلاثين سنة فيما بعد بنفس هذا المناخ وهذه الأجواء الحارة صيفا والباردة شتاء».