وبكى الحجر *
في الثمانينيات من القرن الماضي وقبل تأسيس حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة بـ«بي دي إس» (تأسست في عام 2005) كان هناك بضعة أفراد منتشرين في بقاع الكون، يقاطعون البضائع الإسرائيلية والأميركية أيضا رفضا للكيان الصهيوني الذي غرس كخنجر حاد في قلب الإنسانية.
في تلك الفترة التقيت مصادفة بصاحب محل صغير في أحد المجمعات التجارية الحديثة النشأة، وقبل أن تصبح هي المعلم الأكبر للاقتصاد المعولم!!! هناك جلس يستقبل زبائنه بكثير من اللطف والود، هو صاحب المتجر والبائع أيضا لا موظف يقف بدلا عنه، ولذلك كان يعطي الزبون حقه من الوقت في اختيار ما يشاء، بل يضيفه الشاي أو القهوة إذا ما أحب، لكن كرمه يمتد إلى ما هو أكثر من شراب دافئ أو بارد في صيف قائظ إلى وجبة خفيفة من الطعام... سندويشات مثلا إذا ما طالت الجلسة!!! إلا أنه كان يردد باعتذار شديد أنه «لا يقدم النسكافيه» وهي التي كانت الأكثر انتشارا قبل الكاباتشينو والإكسبريسو واللاتيه وغيرها، هو ابن البحرين البسيط الذي كان يرفض شراء البضائع الإسرائيلية والأميركية، فلا تتوقف الممنوعات في قائمة ما يقدمه على النسكافيه، بل تشمل البسبي كولا والكوكاكولا وغيرهما.
كان هذا الرجل أول من سمعت منه تلك الجملة الشهيرة التي أصبحت الآن وبعد السابع من أكتوبر الأكثر انتشارا «أنا مب مقاطع أنا مستغني»، وإذا ما أصر أحدنا على تفسير تلك الجملة يقول «لا يلزمني ولا ينقص من حياتي أي شيء إذا ما امتنعت عن شراء أي بضاعة حتى لو كنت أشك في أنها مرتبطة بذاك الكيان».
ذاك البحريني البسيط لم يكن وحده، فهناك كثيرون في الخليج والدول العربية الذين التزموا بالمقاطعة أو الاستغناء قبل سنين طويلة رغم بعض نظرات الاستغراب أو غمز ولمز مع بعض السخرية أحيانا... أحدهم يقول «آه فلست شركة النسكافيه بسبب مقاطعتكم» وآخر يقهقه وهو يقول «هم سمعوا فيكم أصلا هذه شركات عالمية».
لم تبدأ المقاطعة أو «الاستغناء» منذ السابع من أكتوبر، لكنها اشتدت منذ تلك اللحظة، وتفاعلت وامتدت وتوسعت وبدأ الشباب قبل كثير منا نحن الذين يسموننا كبار السن أو الختيارية أو الشياب أو العواجيز، من هذا الجيل المهووس بوسائل التواصل والاتصالات امتدت الحملة لتشمل كل من يساهم ولو بقطعة صغيرة في نمو وبقاء هذا الكيان الهجين المستعمر.
المقاطعة لم تبدأ منذ السابع من أكتوبر، كما أن الثورة والانتفاضة والمقاومة لم تبدأ منها، لكن في ذاك اليوم توج المقاومون ثورتهم، ونقلوها الى مرحلة أخرى، تبدو هي المعركة الأولى منذ أكثر من سبعين سنة من الاستعمار والاستغلال والاستيطان وحكم الفصل العنصري، حتى عندما حاول بعضهم تصديق حلول الترقيع كلها من أول اتفاقيات التطبيع حتى تلك التي سميت أوسلو وفيها الشفاء والحل حتى اعترف من وقعها بعد سنين بأنها كانت مجرد خديعة!!!
عندما رفع الكثيرون شعار «قاطع» أو لا تشتري البضائع الملطخة بدماء أطفال ونساء ورجال غزة، بل بدم كل الفلسطينيين، حينها تحركت كل أدواتهم لتبرر مرة وتفند وتدحض ثم تسخر منها، نعم كرسوا كل ما لديهم من قوة لمقاومتها رغم أنهم يقولون إنها غير مجدية، أو كأنهم يقولون «من قال لكم إن تلك الشركة العملاقة المنتجة لمسحوق الغسيل الأكثر انتشاراً ستخسر بمقاطعتكم أنتم»، وصدقهم كثيرون فمن تكون أنت الإنسان البسيط القابض على جمرك ووجعك المراقب للموت الفلسطيني مرة بالقذيفة ومرات بالتجويع والحصار؟ من تكون أمام اقتصاد عابر للقارات والحدود، بل هو معولم أكثر منك؟ وهنا كان لازما أن أعود بذاكرتي إلى ذاك البحريني الأصيل والبسيط جدا الذي أخذ قراراً بالاستغناء عنهم وعن كل منتجاتهم منذ سنين طويلة، ولم يصب بمرض ولم يحس بأنه محروم من أمر أساسي للحياة، وبقي هو شامخا رافعا رأسه حتى جاء ذاك المشهد من البريطاني في السوبرماركت في لندن عاصمة الاستعمار والرأس المدبر لكل الاتفاقيات التي سبقت وعد بلفور وما بعدها، وقف في منتصف السوبرماركت ينادي على المشترين بأن يقاطعوا كل ما ينتج هناك وكل ما ينتجه المستوطنون الأكثر تطرفا من غيرهم، ويعيد هناك بدائل أكثر إنسانية، لا تأكلوا وتشربوا وتلبسوا وتنظفوا ملابسكم وأنفسكم بدمهم، لا تقولوا ما يهم، وماذا ستجني المقاطعة، راجعوا تقاريرهم الاقتصادية بل أكثرها أهمية اقرؤوا «بلومنديل» كل صباح لتعرفكم عن خسائر تلك الشركات الكبرى منذ المقاطعة أو هي الاستغناء عنهم وعن بضائعهم وكل ما ينتجون، وإلا سيأتي يوم، كما قالت تلك التي نجت من مجازر النازيين، كان العالم يتفرج علينا ونحن نباد، والآن يقف مرة أخرى ليرى الإبادة الجماعية بتحالف دولي رسمي في حين الشعوب أو بعضها لا يستطيع إلا أن يرى الحجر وهو يذرف الدمع.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية