«حلّل يا دويري»
من الوجوه التي ذاع صيتها أثناء التغطية الإعلامية للحرب الإسرائيلية على غزّة، اللواء فايز الدويري الذي نال بأسلوبه وتحليلاته اهتمام الكثير من المشاهدين العرب، وجذب إليه بما يبثه من معنويات اهتمام المقاومين أنفسهم مما دفع أحدهم الى مناداته أثناء قيامه بعملية عسكرية ضد هدف صهيوني بعبارة «حلّل يا دويري».
وفي تقديري أن نجاح أسلوب الدويري مردّه الى سببين: واحد طبيعي يرتبط بتمتعه بخبرة كافية لأن يتكلم بلغة عسكرية مبسّطة يفهمها الجمهور، والآخر يعود الى التزامه بإطار الوقائع المصورة والثابتة دون المبالغة في التحليل والمزايدة في التوقعات، الأمر الذي أكسبه نوعاً من المصداقية أكثر مما نسب لبعض الوجوه والأصوات التي احتلت إعلامنا العربي أثناء الحروب الكبرى، بدءا بالعبارات الحماسية لمذيعي «صوت القاهرة» أثناء حرب عام 1967، وليس انتهاء بمداخلات العديدين من الضباط والمحللين العسكريين الذين تمادوا في محاولات إيهامنا بمعرفتهم بخبايا الحروب وتفاصيل المعارك في كل من أفغانستان والعراق وأوكرانيا وغيرها.
وأذكر في هذا السياق أن أحد المحللين العسكريين ممن يحملون رتبة لواء، أضحكني ذهولاً عام 2003 حين قال - حاسماً وجازماً - على شاشة إحدى الفضائيات العربية ما مفاده أن الآليات العسكرية الأميركية الزاحفة براً من جهة البصرة ستعاني لأشهر طويلة، وربما لسنوات، قبل نجاحها في تجاوز «الأهوار» والمسطحات ذات الطبيعة الخاصة في جنوب العراق، كما أن دخول بغداد قد لا تنجح فيه القوى المهاجمة في المدى القريب والمنظور!
***
الواقع أن ما يفعله الدويري هو جزء من معركة معنوية ونفسية يخوضها الإعلام العربي كما الإعلام المقاوم في هذه الحرب الضروس وغير المتكافئة بالعدّة والعتاد لمصلحة كيان وجد من منطلق تزوير تاريخي، واستمر من خلال كذب متماد، وسيبقى مهما طال بقاؤه وهماً مخادعاً.
تمارس الحروب المعنوية من خلال مجموعة من الأساليب النفسية والفكرية والوسائط الإعلامية المكتوبة والمرئية والمسموعة والدعاية الموجّهة، بهدف التشويش المعنوي، والتأثير النفسي، ونشر المعلومات والحقائق التي من شأنها تثبيط العدو وبث الرعب في نفوس جنوده، وكشف حقيقته أمام الرأي العام، إضافة إلى تعزيز الثقة بالنفس ورفع معنويات المقاتلين وبيئتهم الحاضنة.
وقد صار واضحاً أن التحضير العسكري والتخطيط المتقن لـ «طوفان الأقصى» ترافق مع تجهيز رفيع المستوى لكل وسائل الحرب المعنوية بكل أساليبها الإعلامية والدعائية المتاحة، فما تخوضه فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة - الى جانب جهادها المسلّح - هو حرب معنوية حقيقية ومكتملة العناصر، تماثل في إمكاناتها المتواضعة وفعاليتها الميدانية ما يستخدمه المقامون من أسلحة محلّية الصنع مدوّية النتائج.
حاول الكيان الصهيوني في الساعات الأولى التي تلت «الطوفان» أن يغطي على خيبته العسكرية وفشله الاستخباراتي بحملة تشويه للحقائق وبمحاولات استجداء للتعاطف الدولي - الرسمي والشعبي - من خلال تأدية دور الضحية وإيهام الرأي العام العالمي بأن «الآمنين الإسرائيليين» تعرضوا مع أطفالهم لأبشع جرائم القتل والاغتصاب والتمثيل والخطف!
إلا أن الحقائق ما لبثت أن ظهرت والتزوير ما لبث أن كُشف، ولم تمر أيام معدودات حتى تيقن العالم بأسره من الوجه الحقيقي لهذا الكيان الغاصب الذي لم يرف لجنوده جفن أثناء ارتكابهم أبشع المجازر الجماعية في المساكن والمعابد والمستشفيات ومآوي اللجوء التابعة للأمم المتحدة، والذي لم يسلم من ضغائنه بشر ولا حجر ولا شجر.
وها هي الفيديوهات المصورة التي يبثها «الإعلام الحربي» للفصائل الفلسطينية المقاتلة من أرض المعركة تكشف ما قد يخفى على الجاهلين أو المُجهَّلين من حقائق تثبت وهن العدو وارتباكه مقابل بسالة الذين لم يترك لهم القدر سوى خيارين هما النصر أو الشهادة.
***
من ناحية متصلة، ورغم النجاح النسبي والمتفاوت للفضائيات العربية في كشف بعض جوانب النضال والمعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في غزّة والضفة الغربية وكامل أراضي فلسطين التاريخية، يبقى الإعلام الغربي - خصوصا الأميركي - أكثر مهارة وفعالية بنقل أجزاء الصورة التي تخدم أهدافه.
فتقنياته أعلى، ولغته أكثر انتشاراً، وتأثيره أوقع في نفوس الشعوب الغربية التي يغرق جزء كبير منها في الفردية واللامبالاة وربما المحدودية المعرفية، أما تمويله فلا يعتمد في مصادره على أي مؤسسة رسمية توجّهه وفق مصالحها السياسية المحلية والخارجية، بل يستمد دعمه الوفير من ثروات بعض الأسر اليهودية الشهيرة.
وعلى عكس جزء وازن من الإعلام العربي الذي لا يجتهد عادة إلا ضمن إطار ردات الفعل والتغطيات الآنية للأحداث، نجح الإعلام الغربي في تنفيذ خطة توجيه معنوي بدأت منذ عقود وبرزت في كل المفاصل الكبرى، وساهمت بتشكيل الوعي الجماعي، إن لم نقل بتكريس «اللاوعي» الجماعي للشعوب والأمم.
فانطلاقاً من هذا التفاوت بين الإعلامين العربي والغربي في الإمكانات ومساحة المشاهدة وحجم التأثير، وفي الزمن الذي أصبح فيه كل فرد على الكرة الأرضية مراسلاً صحافياً، حريّ بكل عربي أن يعي مسؤولياته في انتقاء وترجمة أبرز ما يرد الى الهاتف النقّال عن أحداث غزّة ومآسي الصامدين فيها، وتمريرها لكل معارفه وأصدقائه في العالم الغربي، في محاولة فضح ما قد أخفي عمداً.
* كاتب ومستشار قانوني.