كنت أحسب أنني بت محصَّنا من الصدمات، ولكن قبل أيام تسبب لي في صدمة بالغة، لقد قضيت الجانب الأكبر من حياتي الراشدة وأنا في اليمين من الأمور، داعما بصفة عامة الحزب الجمهوري، ظنا مني أنه الحزب الأفضل خدمة لأميركا، ثم أبعدني أمثال سارة بلين ودونالد ترامب عن الفَلَك الجمهوري (تدريجيا ثم بحسم)، لكنني بقيت أتشبث في رجاء بأن يكون كثير من أصدقائي في اليمين أشبه ببلد خاضع للاحتلال، فهم مرغمون على ترديد الانحيازات الترامبية من أجل النجاة من هذه الحقبة، لكن حزب ريغان لا يزال حيا في أعماق أرواحهم.
وبعد هذا الأسبوع، وهزيمة حزمة (الهجرة-أوكرانيا-إسرائيل)، يصعب عليَّ الاستمرار في هذا الاعتقاد، فحتى مع نجاة بعض أقسام القانون، لا شك أن حزب أيزنهاور وريغان وماكين قد انتهى أمره، ليس في أوساط الجمهوريين في مجلس النواب وحسب، إنما يبدو أنه انتهى أيضا لدى زملائهم في مجلس الشيوخ.
ولعل هذا هو ما يخطر الآن في أذهان قرائي التقدميين: ألم تكن منتبها؟ لقد امتلك دونالد ترامب ذلك الحزب على مدار سنين، فإن طلب منهم القضاء على تسوية الهجرة لأنه بحاجة إلى محض قضية لحملته الانتخابية، فإنهم يقضون على ذلك المقترح.
وردًّا على ذلك أقول: لا أعتقد أنكم تفهمون تمام الفهم ما حدث للتو، فذلك لم يكن محض خضوع ظاهري من الجمهوريين لترامب، إنما أنا على قناعة بأن الترامبية الآن متغلغلة في أعماق عقولهم حاكمة لظنونهم الباطنية، وأن غرائزهم الذهنية الأساسية لم تعد المحافظة مثلما كانت إنما هي الترامبية.
وإليكم بعض القناعات التي كان على الجمهوريين أن يقبلوا بها تمهيدا للقيام بما قاموا به الأسبوع الفائت:
الديمقراطية هذه للحمقى، ففي المجتمع الديموقراطي، يتفاوض الحزب المعارض محاولا التوصل إلى حل وسط يكون، في المحصلة، أفضل من الوضع الراهن، وحزمة (الهجرة-أوكرانيا-إسرائيل) التي شهدناها قبل أيام هي من أفضل الحلول الوسطى أحادية الجانب التي رأيتها في حياتي، فقد حققت للجمهوريين بعض أقدم أولوياتهم، ولم تحصل للديموقراطيين على شيء من ذلك في المقابل، وقد أشارت افتتاحية «وول ستريت جورنال» إلى أنه «وفقا لأي تفكير منصف، هذا أكثر القوانين تقييدا للهجرة منذ عقود... يكاد يكون بالكامل مشروع قانون لتأمين الحدود، وتتضمن مواده أولويات قديمة للحزب الجمهوري ما كان ليستطيع دعاة التقييد في الحزب أن يجيزوها قبل أشهر قليلة».
ورغم ذلك فإن الجمهوري تلو الجمهوري كان يعارض الحزمة، قائلين جميعا إنها لا تحقق كل شيء على الإطلاق مما يرغبون فيه، تبنوا المنطق الترامبي بألا يقبلوا في ظل حكمه بأي حلول وسطى، سيصدر الطاغية أوامره، فيتحقق كل ما يرغب فيه الجمهوريون، وفي الوقت نفسه يتعرض الجمهوري جيمس لانكفورد، الذي أجرى تفاوضا عظيم النجاح لانتقادات شرسة في مواقع الإنترنت اليمينية بدعوى أنه ضعيف الإرادة.
الترفيه مقدم على الحكم، في ظل حكم ترامب، يبدو الحزب الجمهوري أبعد عن الحكم وأقرب إلى مجمع الترفيه المتواصل، فليس له أنصار، إنما له جمهور، والعرض الترامبي ينطوي على خطوط عريضة محددة: واشنطن دنسة فوضوية لن تصيب في شيء أبدا، أميركا في فوضى، جو بايدن راديكالي يساري متصلب لن يميل يوما إلى الوسط، وحده ترامب القادر على إنقاذنا، وكان من شأن إجازة الحزمة أن تقضي على كل هذه السردية، فكان لا بد من تدمير الحزمة إنقاذا للعرض الترامبي.
طغى الاستعراض حتى على أوليات الحكم، وتخلص النواب الجمهوريون من حل وسط كان من الممكن أن يجاز، ويتحزبون في بطولة وراء أفكار لا فرصة لها في الحصول على ستين صوتا، ولقد قالها ميت رومني: «لقد درجت السياسة على أن تكون فن الممكن، لكنها الآن فن المستحيل، بمعنى هيا بنا نطرح مقترحات لا يمكن أن تجاز كي نقول لقواعدنا: انظروا كيف نقاتل من أجلكم».
لا قيمة للأجانب، عندما انتصر دوايت أيزنهاور على روبرت تافت في الترشيح الجمهوري سنة 1952، أصبح الحزب الجمهوري حزبا دوليا وبقي إلى حد كبير كذلك طوال ستة عقود، لكن الانعزالية الآن هي المسيطرة على موقف الحزب، والانعزالية موقف بموجبه لا تكون من قيمة للعالم الخارجي بالنسبة للأمن الأميركي، ولا ضير مطلقا أو خطر من تجاهل المشكلات العالمية، وهي تقوم على فكرة نظرية مفادها أن أميركا عاشت ذات يوم في عزلة بديعة إلى أن تولى أولئك النخبويون العولميون زمام الأمور، ومعارضة زيادة المعونات لأوكرانيا هي في جوهرها عمل انعزالي، وهي موقف يبدو الآن أن أغلبية جمهوريي مجلس النواب يتبنونه وكذلك أغلبية عنيدة في مجلس الشيوخ.
وليست لدى الانعزاليين الجمهوريين اليوم استراتيجية كبرى، فمنهجهم في السياسة الخارجية قائم على استنتاج غير مستند إلى مقدمات، إذ علينا وفقا لهذا المنطق أن نزيد إنفاقنا في الدفاع عن حدودنا الجنوبية، وأن نقلل إنفاقنا دفاعا عن الديموقراطية الأوكرانية، ويبدو فعليا أن أمثال جيه دي فانس يعتقدون أننا لو سمحنا لفلاديمير بوتين بالانتصار في حروبه لغزو أوروبا، فلن تترتب على ذلك عواقب هنا في الوطن. ولا بد أن نيفيل شامبرلين [رئيس وزراء بريطانيا المحافظ من 1937إلى 1940] عاجز حيثما هو عن التصديق.
الكذب طبيعي، فدائما ما يشوه الساسة المقترحات التي يختلفون معها، لكن ترامب سمح لزملائه أن يختلقوا ما يشاؤون غير ملومين، ففي الساعات التالية لإصدار الحزمة، خرج علينا المسؤولون الجمهوريون ببركان من الأكاذيب عما فيها.
فأكد النائب ستيف سكاليس أن الحزمة «تقبل بخمسة آلاف مهاجر غير شرعي يوميا»، ثم أوضح مذيع في فوكس نيوز أن هذا غير صحيح، وأكد النائب دان بيشوب أن المهاجرين غير حاملي الأوراق الرسمية «من غير المكسيك وكندا لن يحسبوا في جملة المعتقلين، وقال الممول ستيفن راتنر مصححا إن هذا غير مضبوط إذ يشير البند فقط إلى القصَّر ممن لا يرافقهم أحد، والذين لا يصل منهم من البلاد المجاورة إلا قليلون للغاية، والرئيس ليس بحاجة إلى قوانين جديدة لإيقاف الهجرة غير الشرعية حسبما أكد رئيس مجلس النواب مايك جونسون، فلماذا كبد مجلس النواب نفسه كل هذا العناء لإجازة قانون «مجلس النواب2»، (H.R. 2) في العام الماضي في محاولة لوضع قانون جديد لإيقاف الهجرة غير الشرعية؟
فقد ألغى ترامب الافتراض بأن المصداقية أمر لطيف.
أميركا ستكون أفضل حالا في عالم ما بعد أميركا، مثلما أشار نوح روثمان في ناشيونال ريفيو، لو كنتم قدمتم للحزب الجمهوري ما قبل ترامب مشروع قانون للهجرة واجب النفاذ مرتبط ببنود لاحتواء العدوان الروسي والصيني والإيراني، لحققتم أساسا كل أحلام الجمهوريين في لحظة واحدة، لكن الحزب اليوم رفض الصفقة، ليس لأن الأجزاء المتعلقة بالهجرة لم ترق له فقط، ولكن أيضا لأنه لم يعد يؤمن بنظام دولي تقوده أميركا.
إن الاقتصاد الأميركي يحظى بأفضل فترات النمو في حياتنا، ومع ذلك أقنع كثير من الجمهوريين أنفسهم بأن الأمة مدمرة ولا يمكنها أن تتدبر التزامات خارجية، ففي الأعوام الستين التالية للحرب العالمية الثانية، حافظت أميركا وحلفاؤها على نظام عالمي أنتج عالما أعظم أمنا وثراء من العالم السابق، ومع ذلك أقنع الجمهوريون أنفسهم بأن الولايات المتحدة عقمت، وأن اشتباكاتها الخارجية دائمة الفشل.
ويقول الجمهوريون إنهم يعارضون نظام شي جين بينغ الحاكم في الصين، بل يتظاهرون في بعض الأحيان أنهم يعارضون نظام بوتين الحاكم في روسيا، لكنهم على المستوى العملياتي يتبنون بعض أهدف شي وبوتين، ومنها تقليص الدور الأميركي في العالم، وتدمير ثقة أميركا في قدرتها على استعراض القوة، وتقليص أميركا إلى محض قوة عظمى إقليميا.
إننا نعيش إحدى أخطر الفترات في العصر الحديث، ومثلما أشار المؤرخ هال براندس أخيرا في مجلة فورين أفيرز، فإن الوضع اليوم شبيه بما بين منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين وأواخرها، ففي ذلك الزمن، هاجمت إيطاليا الفاشية إثيوبيا، وأعاد هتلر عسكرة منطقة الراين، ودمرت اليابان الصين، وهذه الصراعات الإقليمية الثلاثة تحولت بعد ذلك إلى حرب عالمية، لكن حتى في عام 1937، حذر فرانكلين روزفلت من «وباء غياب القانون العالمي».
ووباء غياب القانون عاد. فروسيا وإيران والصين بدأت أو جددت توترات إقليمية على أنحاء تهدد بالتطور إلى شيء شنيع، وجماعات من قبيل الحوثيين تسعى إلى ملء الفراغات الناجمة عن الضعف الأميركي، وغيوم العاصفة تتجمع في الأفق.
قد تتصورون أن هذه النزعات من شأنها أن تبث الجدية في نفوس الرجال والنساء المنتَخَبين لتمثيل شعب هذه الأمة، لكنه لم يفعل، فالترامبية كانت ذات يوم موقفا ظاهريا لأغلب المسؤولين الجمهوريين يحافظون به على قدرتهم السياسية، لكن ثمة حقيقة أبدية في علم النفس الإنساني وهي أن القناع لمن يرتديه وقتا طويلا ينتهي وقد بات هوية.
*ديفيد بروكس «نيويورك تايمز»