بعد مرور أربعة أشهر على الهجوم الذي شنته إسرائيل على غزة، يبدو أن المناقشات لاتزال محصورة في الإطار نفسه المثير للضجر والمضلل الذي كان موجوداً قبل بدء القتال الحالي، إذ يكافح صناع السياسات والمعلقون من أجل شرح ما يحدث وما يجب القيام به، رافضين الخروج عن القيود التي تفرضها الحكمة التقليدية للخطاب السياسي، ولا أحد يتفوه بما ينبغي قوله، على سبيل المثال، على الرغم من الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بأن «سلوكيات إسرائيل تمثل شكلاً معقولاً من أشكال الإبادة الجماعية»، فإن هذه الكلمة محظورة.
وعند عرض أعداد القتلى وأولئك الذين يواجهون المجاعة والأدلة الواضحة على الدمار الشامل للبنية التحتية في غزة، يحول صناع القرار والمعلقون المناقشة إلى الجرائم التي ارتكبتها «حماس» في 7 أكتوبر2023، أو يلقون باللوم في مقتل المدنيين على استخدام حماس «للبشر كدروع»، إنهم يسعون إلى إعفاء الولايات المتحدة من أي مسؤولية عن الوفيات، ويصرون على أن الرئيس وإدارته يواصلون حث الإسرائيليين على اتخاذ إجراءات لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، كما أنهم يتجاهلون أن إسرائيل لا تعير اهتماماً «لحثنا»، في حين تقوم بإعادة إمداد إسرائيل بالذخائر الفتاكة وعرقلة الجهود الدولية الرامية لوقف إطلاق النار، وما يثير الإحباط بالقدر نفسه هو إصرار الولايات المتحدة على رغبتها في تقديم المزيد من المساعدات الإنسانية إلى السكان الفلسطينيين اليائسين في غزة، في حين ترفض تحميل إسرائيل المسؤولية عن نظام التفتيش المزدوج والقصف المستمر الذي يعوق تسليم الإمدادات إلى المحتاجين.
من ناحية أخرى، فإن القرار الأميركي الأخير بحجب الأموال عن الأونروا- الوكالة الوحيدة التي لديها القدرة على تقديم المساعدات- بسبب الجرائم المزعومة التي ارتكبها عدد قليل من موظفيها الذين تقدر أعدادهم بالآلاف، يشكل استهزاءً بالتزامنا بتقديم المساعدة الإنسانية.
وبقدر ما قد تكون هذه الروابط واضحة، إلا أنه قد لا يتم ذكرها، بعد تجاهل حقيقة أن الغارات الإسرائيلية اليومية على المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية أدت إلى مقتل أكثر من 400 فلسطيني، وأن 500 هجوم للمستوطنين على الفلسطينيين في منازلهم أو سياراتهم أو حقولهم أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص وتدمير الآلاف من أشجار الزيتون، قررت الولايات المتحدة فرض عقوبات على أربعة مستوطنين، وقد سخر المستوطنون من هذه البادرة الجوفاء، التي وصفها النقاد بأنها «غير مسبوقة» و«هائلة».
ولم تتم مناقشة المشاكل الجذرية مع الاحتلال الإسرائيلي (وهو مصطلح غير مسموح به على الإطلاق في برنامج الديموقراطيين)، والمشروع الاستيطاني الآخذ في التوسع، ونظام الفصل العنصري الذي يؤدي إلى الإفلات من العقاب لكل من المستوطنين والجيش الإسرائيلي، ان هذه الرقابة الذاتية على المصطلحات التي يمكن استخدامها أمر مثير للغضب.
ومن المثير للانزعاج بالقدر ذاته أن مناقشات «اليوم التالي» تكتسب زخماً في وسائل الإعلام والدوائر السياسية في الولايات المتحدة، فما هو «اليوم التالي» لـ2.2 مليون نسمة في غزة؟ هل ينبغي عليهم أن ينسوا عشرات الآلاف الذين ماتوا وتحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض؟ وماذا عن الصدمة التي يتعرض لها مئات الآلاف من الأطفال الذين يعانون تشوهات جسدية ونفسية؟ وهل من المتوقع أن يموت عشرات الآلاف في الأشهر المقبلة بسبب المرض أو التضور جوعاً؟
هذه الأسئلة التي تتجاوز الخطاب المقبول، لا يطرحها النقاد أو صناع السياسات، ولم يقدم المسؤولون في واشنطن خطة الإدارة الأميركية بعد، لكنهم قدموا تلميحات عما يفكرون فيه أثناء الخطب والمناقشات مع الصحافيين، وإن أفكارهم ترقى إلى مستوى «الكثير من اللغط حول لا شيء».
إن حجر الزاوية في بناء «اليوم التالي» ليس أكثر من «طريق إلى إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف»، والعبء يقع على عاتق الفلسطينيين في إنشاء دولة ذات مصداقية، وقابلة للحياة، وديموقراطية، وفاعلة، ولا تشكل أي تهديد لإسرائيل، ويجب على الفلسطينيين أن يفعلوا ذلك في حين يستمر الاحتلال دون أي قيود على سيطرة المحتلين على الأرض والموارد والحدود والاقتصاد، إنها الخطة الغريبة نفسها التي اقترحها الرئيس بوش آنذاك في عام 2002.
والدرس الذي لم يتم تعلمه هو أنه طالما أن الفلسطينيين غير قادرين على تنمية اقتصادهم وحماية أرضهم وشعبهم من استيلاء الإسرائيليين وقمعهم، فلن تتمكن أي دولة ذات مصداقية من الظهور، إنه سراب صممته الولايات المتحدة لإلقاء العبء على الطرف الأضعف، وإعفاء الإسرائيليين وأنفسنا من المسؤولية. إن أي إلقاء للوم على إسرائيل يركز فقط على بنيامين نتنياهو وشركائه المتشددين، ولكن أي فحص دقيق لوجهات نظر الناخبين الإسرائيليين لا يجد أي تحالف يمكن تصوره ليحل محل نتنياهو ويكون قادراً على إنهاء الاحتلال والانسحاب من الأراضي والمستوطنات للسماح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة.
أظهر استطلاع إسرائيلي حديث أن الأغلبية سترفض إنشاء دولة فلسطينية حتى لو كان ذلك مصحوباً باعتراف المملكة العربية السعودية وضمانات أمنية، ومع ذلك فإن النقاد يلتزمون الصمت بسبب قلقهم على الرأي العام الإسرائيلي، ويستمر هجوم الإبادة الجماعية الذي ترتكبه إسرائيل، وكذلك النقاش السياسي الأميركية المنفصل عن الواقع، ولن يحدث التغيير حتى نحرر أنفسنا من أغلال الخطاب المقبول الذي أوصلنا إلى هذا الطريق المسدود.
* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن