غالباً ما يتساءل الرأي العام المحلي عن إمكانية تحقيق الإصلاح الاقتصادي بالكويت في ظل عقود من النكوص عن أي مشروع إصلاحي، فضلاً عن تضخّم المصروفات العامة وتدهور مستوى الخدمات، لا سيما التعليم والبنى التحتية وانحرافات سوق العمل والتركيبة السكانية، فضلاً عن اختلال مكوناتهما وغلبة وزن النفط على الإيرادات العامة، وسيطرة الدولة على الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عمّا كشفته السنوات الأخيرة من تفاقم سوء الإدارة والفساد المالي وتحوّل القضايا الخدمية الى أزمات لا تليق بأي دولة كانت غنية أم فقيرة، كـ «حصى الشوارع» و«أزمة الدروازة».

واقعية وإصلاحات

Ad

وكثيراً ما يكون النقاش مرتبطاً بمدى واقعية المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والمالي في ظل المخاوف من أوضاع الإدارة العامة في الكويت، والتي غالباً ما تكون ضحية سوء الإدارة الحكومية وشعبوية القوانين البرلمانية، وهي مخاوف في محلها، وتتطلب من دون شك تدخلاً إصلاحياً عميقا، لكنّه أيضاً يُعدّ - إذا ما قورن مع تجارب دول أخرى حققت معجزة الإصلاح الاقتصادي، رغم ظروف استثنائية لا يمكن مقارنتها لا بالكويت ولا أي دولة أخرى تعاني مشكلات إدارية - أكثر من الأزمات المالية.

فبالنظر إلى العقد الأخير، أي ما بين نهاية القرن الماضي ودخول الألفية الجديدة، تبرز على ساحة الاقتصاد العالمي 3 دول كـ «سنغافورات» للمعجزة الاقتصادية، تيمناً بتجربة التحول الاقتصادي المذهلة التي قادها لي كوان يو، ونقلت سنغافورة من دولة صغيرة عديمة الأهمية في آسيا، إلى مركز مالي واستثماري يضاهي لندن وطوكيو ونيويورك.

تحولات ونماذج

ومع تأكيد استحالة استنساخ تجارب الدول فيما بينها، إلّا أن مصطلح «السنغافورية» يمكن استخدامه كنموذج لوصف حالة تحوّل في اقتصاد معيّن أو حتى بلد ما من الانهيار إلى الانبهار، نتيجة تحولات في نوعية أو آلية الإدارة أسهمت بشكل جوهري في إحداث نموذج معيّن من الإصلاح الاقتصادي، وهو ما ينطبق على 3 دول حوّلت نماذج الفشل والانهيار الى مشاريع نجاح، والمقصد هو النماذج التي قدّمتها كل من فيتنام التي مزّقها الاستعمار والحروب الأهلية وقيود الشيوعية، ورواندا التي كانت الحرب الأهلية فيها مثال للإبادة الجماعية، فضلاً عن اليونان التي كادت بفعل إرهاصات الأزمة المالية العالمية تعصف بالاتحاد الأوروبي برمّته.

حصان آسيا

فيتنام التي كانت رهينة استعمار فرنسي، فاحتلال أميركي تخلله وتلاه حروب أهلية وإقليمية وسيطرة تامة للدولة عبر المؤسسات الشيوعية التقليدية على الاقتصاد البسيط الذي يغلب عليه أدوات الزراعة البدائية، تحولت مع وصول نيجوين فان لين إلى رئاسة الحزب الشيوعي الفيتنامي عند منتصف الثمانينيات إلى ما يُطلق عليه حالياً «حصان آسيا الأسود»، مع تبنّيه سياسات اقتصادية أكثر انفتاحاً، لا سيما مع التحولات التي انتابت المجموعة الشيوعية في الصين وشرق أوروبا، وحتى الاتحاد السوفياتي السابق نفسه، إذ أطلق نموذجاً جديداً تمثّل في برنامج النهضة الفيتنامي «دوي موي»، الذي استهدف تحقيق إصلاحات جذرية وقانونية وضريبية في بنية الاقتصاد، وتغيّر بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمار الأجنبي والقطاع الخاص، مع التشديد على دور الدولة في البنية التحتية والتشريع والتنظيم وخلق بيئة منافسة والحد من البيروقراطية.

وتمكنت فيتنام من أن تجعل من التصنيع الموجّه نحو التصدير قاطرة نمو حقيقية ومصدرا أساسيا لخلق فرص العمل، إذ تحولت هذه الدولة الواقعة في جنوب شرق القارة الآسيوية الى عاصمة للمصانع العالمية، مثل سامسونغ، ودل، وأبل، وإل جي، وانتل، ونايك، وأديداس، وغيرها من كبريات العلامات الصناعية والاستهلاكية في العالم بكل ما توفره من عوائد ضريبية وصادرات وتشغيل للأيدي العاملة، فضلاً عن تركيز الدولة على تنظيم وخلق الفرص في قطاعات النمو الأساسية كالبنى التحتية والاستثمار والتعليم.

نمو ومنافع

هذه السياسات الاقتصادية لم تجعل فيتنام فقط تتجنب السقوط في الأزمات الكبرى كأزمة النمور الآسيوية عام 1997، أو الأزمة المالية العالمية عام 2008، فضلاً عن جائحة كورونا، بل إن مؤشراتها الاقتصادية، رغم هذه الأزمات تُعد - من دون مبالغة - مذهلة، حيث لم ينخفض معدل النمو الاقتصادي لفيتنام منذ بداية الألفية عن 5.6 بالمئة، ليسجل عام 2022 معدل النمو الأسرع في قارة آسيا، وهي من دول قليلة على مستوى العالم استطاعت تحقيق عامين متتاليين من النمو بعد جائحة كورونا.

وعلى المستوى الاقتصادي - الاجتماعي كان لبرنامج «دوي موي» دور مميز في تحويل النمو الاقتصادي الى منافع اجتماعية، فبين عامي 1990 الى 2020، نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 90 دولاراً إلى 2785، وتراجعت البطالة من 19 إلى 3.7 بالمئة. أما على صعيد الأمية، فقد بلغت 2 بالمئة، انخفاضاً من 30 بالمئة، وقفزت فيتنام من المركز 47 بين الدول المصدرة للتكنولوجيا عام 2001 إلى المركز العاشر عالميا عام 2020، في حين باتت الكهرباء متوافرة لـ 99.4 بالمئة من الفيتناميين، بعد أن كانت النسبة عند 4 بالمئة فقط عند مطلع التسعينيات.

معجزة إفريقية

هذه المعجزة الآسيوية تقابلها معجزة إفريقية تتمثل في جمهورية رواندا، التي كانت عاصمتها كيغالي ساحة لمئات الآلاف من الجثث خلال الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والقتل على الهوية، مع تفشي الفقر والأمية، فقد تحولت عند مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومع إطلاق مشروع إصلاحها بقيادة بول كاغامي، الى وجهة سياحية مفضّلة في غرب القارة السوداء، بالتوازي مع تسجيل معدلات نمو عالية خلال أقل من ربع قرن، حيث إن النمو الاقتصادي لا يقل عن 7 بالمئة سنوياً، ومضاعفة الناتج المحلي الإجمالي لنحو 9 مرات، وارتفاع نصيب الفرد من الدخل السنوي لـ 6 أضعاف، كما أن لدى رواندا اليوم أكبر منشأة للطاقة الشمسية في الغرب الإفريقي، ومشاريع لبلوغ الفضاء.

أقلية تحكم

ولقد كان نموذج كاغامي، وهو من أقلية «التوتسي» مرتكزاً أولاً على المصالحة بين القوميات المتحاربة وإصلاح المؤسسات، لا سيما القضاء، وإنجاز دستور جديد، وإلغاء المسميات العرقية، كالهوتو والتوتسي في التعاملات الرسمية، وتجريم استخدام أي خطاب عرقي، ويقوم ثانياً على مشروع اقتصادي يهدف إلى رفع مستوى الدخل، وتقليل الاعتماد على المعونات الخارجية، وتنمية الخدمات السياحية والفندقية والبنية التحتية، وتحديد آليات الإجراءات الضريبية، وجذب الاستثمار، وتطوير التعليم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخلق طبقة وسطى من أبناء الشعب قادرة على خلق الثروة والمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد... فكان أن حققت رواندا المعجزة الاقتصادية.

ديون وسخرية

أما اليونان، فهي وإن كانت تختلف عن ظروف فيتنام أو رواندا من حيث أنها لم تتعرّض في التاريخ الحديث لغزو أو حروب أهلية، فهي واجهت أزمة ديون خانقة مع تداعيات الأزمة المالية العالمية 2008، فكادت تشكّل أزمة نظامية في الاتحاد الأوروبي، حيث يناهز الدَّين العام في اليونان 390 مليار دولار، بما يوازي 205 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وباتت أثينا بتاريخها ومقوماتها على صعد السياحة والآثار والمرافق السياحية محطّ سخرية في القارة الأوروبية، لا سيما ألمانيا التي كان الحديث اليميني فيها يتطرّق لبيع اليونان وتاريخها لسداد ديونها!

خطط ونتائج

فمن خلال خطة إنقاذ صارمة لتحقيق النمو الاقتصادي وحصافة الإنفاق، وتعاون دولي، خصوصا مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، تمكّنت اليونان من تسجيل انخفاض حاد في الديون بعد 3 خطط إنفاق فائقة التشدد بقيمة 306 مليارات دولار انتهت عام 2018 لتظهر آثارها في السنوات الأخيرة بشكل لافت، من خلال تراجع نسبة الدَّين العام من الناتج المحلي الإجمالي من 205 بالمئة خلال «كورونا» إلى 160 بالمئة عام 2023، وتوقّع بلوغه 141 بالمئة عام 2027، بالتوازي مع تحسُّن التصنيفات الائتمانية للبلاد مع نمو الاقتصاد اليوناني 5.6 بالمئة عام 2022 و2.4 بالمئة عام 2023.

ومع استمرار تأثيرات الديون على الاقتصاد، من خلال تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنحو 25 بالمئة منذ عام 2015، وارتفاع البطالة بـ 27 بالمئة، فإن اليونان سجلت تحسّنا في التحول الرقمي والحد من التهرب الضريبي وزيادة في الاستثمارات.

استرشاد لا استنساخ

ثمة الكثير مما يقال عن تجارب «سنغافورات الألفية الجديدة» - مع تحييد عرض تجارب دول تكاد تنهار بفعل سوء إدارتها مثل لبنان والعراق وفنزويلا والأرجنتين ومصر - لكن اللافت أن في كل حالة منها كان هناك مشروع دولة حاضر بإدارة كفوءة تضع الأهداف لتنفذها، فضلاً عن أن أي عملية إصلاح في السنغافوريات الثلاث لم تكن على حساب المؤسسات والديموقراطية، فاليونان لم تنقلب على نموذجها الديموقراطي وتداولاته للسلطة، ورواندا أعطت مهمة قيادة المؤسسات وإصلاحها لشخص من الأقلية الأكثر تعرّضاً لمذابح الحرب الأهلية، وخففت فيتنام الكثير من قيود الشيوعية لمصلحة انفتاحها السياسي والاقتصادي.

وعودة إلى شأن الكويت، فإن تجارب «السنغافورات» هي فرصة للاسترشاد لا الاستنساخ، وأول ما يمكن الاسترشاد به هو أنه لا مستحيل في الإصلاح الاقتصادي إذا أطلقت إدارة كفؤة مشروع دولة، فالكويت لا تعاني أزمة وجود أو حدود، إنّما تحديات استدامة، ولا أزمة اقتصادية مركّبة في البلاد كضخامة الديون أو الانفجار السكاني أو شح الموارد، بل مجرد سوء إدارة ترتب عليه سنوات من تراكم اختلالات الاقتصاد بكل مظاهرها المالية والبشرية والتنموية.