ملاذ
كيف يكون المسكن هويةً وملاذاً من قسوة العالم الخارجي؟ وكيف يتحول ببساطة إلى سجن إسمنتي خانق؟ قلة هم من لا يعانون مشكلة السكن في الكويت، وهي قضية مركبة ذات عدة أبعاد، فمن الجانب المعماري، كان تصميم البيوت الحكومية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي غاية في الجمال والتميز، حيث خلقت هذه البيوت هوية عمرانية للكويت تم ذكرها وتناولها في عدة برامج ومنشورات عالمية، فهي كانت تتبع لغة بصرية موحدة، وهي وليدة بيئتها الصحراوية بألوانها وعناصرها التقليدية المحدثة التي كانت تحاكي روح العصر آنذاك، والتزمت كذلك بقوانين البناء، فكانت ارتفاعاتها مناسبة ومريحة للأبصار، فهي لا تقتحم خصوصية الآخرين بالتطاول عليهم بالعمران.
أما ما يحدث الآن في عالم الإسكان فما هو إلا فوضى عارمة سببها الغلاء الفاحش للسكن– سواء أكان بالشراء أو الإيجار- وطول فترة الانتظار للحصول على المنزل الحكومي، فاضطر المواطن للتوسع في بنيان بيته الحكومي لإيواء أبنائه وعائلاتهم الجديدة، مما سبب كثافة عمرانية خانقة في المناطق السكنية، فحتى مساحة الارتداد أصبحت مبنية، والتصقت البيوت ببعضها، مما ألغى الخصوصية تماماً، وسبب ازدحاماً وضغطاً كبيراً على مختلف الخدمات من كهرباء وأسواق ومدارس وغيرها، كذلك أصبحت الشوارع ضيقة مما جعل السائقين أكثر عرضة لحوادث السيارات، ويبدو لي أن البطء في تطوير المناطق السكنية الجديدة قلل من حافز الانتقال إليها.
وقد قام البعض للأسف بتحويل منازلهم إلى عمارات سكن استثماري ضخمة لتحقيق الربح المادي، فكانوا سبباً في مضايقة جيرانهم بسبب سكن العزاب فيها، والأجدر تصميم مناطق سكنية نموذجية لهؤلاء العزاب تراعي حاجاتهم الإنسانية وتكون بالقرب من مناطق عملهم.
نعود هنا إلى الجانب المعماري، فإن عدم الالتزام بقوانين البناء- وتحديث تلك القوانين- أدى إلى حدوث نشاز بصري، فهنالك من يقوم بطلاء منزله بالأخضر أو الزهري الفاقع تحت ذريعة الحرية الشخصية بدلاً من الالتزام بمجموعة ألوان محددة تندرج تحت قانون البناء، وهي ألوان متماشية مع البيئة كالأبيض والسكري والبيجيات، وكذلك فقد غزا الـ«جينكو» القبيح الأسطح والأحواش، وبسبب ضعف الوعي المعماري فإن الغالبية يختارون تصاميم ومواد بناء غير مناسبة لمناخنا كالحديد والألمنيوم والإسمنت الثقيل والواجهات الزجاجية الكبيرة، فأدى ذلك إلى زيادة درجة الحرارة بشكل ملحوظ، في حين كان من الممكن تخفيضها واستخدام مواد صديقة للبيئة تسر الناظرين.
وكان لأجدادنا حكمة فطرية عميقة، فعلى سبيل المثال، تصميم الحوش يخفض من درجة الحرارة بشكل كبير، وسماكة الحوائط القديمة كانت تحمي المنزل من الحرارة، أما المشربيات فهي تحافظ على الخصوصية وهي عنصر جمالي يعكس هوية المجتمع المحافظة.
وعلى الرغم من ذلك ما زال الكثيرون يستخفون بالقيمة الجمالية للعمران، علما أنه دليل الاتساق والتصميم الناجح، فلماذا إذاً نتغنى بجمال المدن الأوروبية؟ فهي التزمت بقانون بناء موحد خلق صورة متجانسة وهوية فريدة تعكس ثقافة البلد، ولنا بهم أسوة حسنة!