وجهة نظر: كليلة ودمنة في هذا العالم الظالم
ما دعاني لكتابة هذا المقال شعوري بزحمة الأفكار الكبيرة ومساحة التعبير المحدودة التي أعيشها في زمن العولمة الأميركية التي بشرتنا بالحريات المطلقة، فلم نجد منها إلا ما وجده آلان دونو من التفاهة الحالية التي أصبحت نظاماً متكامل العوالم والمعالم يقود المجتمع والمؤسسات الثقافية والسياسية.
فالولايات المتحدة مثلاً حملت لواء الحرية والديموقراطية وتعدد الآراء، ثم بدت عاجزة عن احتواء تكساس الرافضة للهجرة، لتتعرى الدولة الكبرى أمام المخدوعين بها بشكل لم يعد يسمح لأوراق التوت أن تستر العورة.
وقد تكون الولايات المتحدة عارية بالنسبة لي منذ قيام دولة صهيون والعدوان الثلاثي والأحداث التي سبقت العدوان والتي لحقته، فرغم أني لم أكن قد ولدت في نكسة 67 ولا في عدوان 56 ولا في حرب، لكن المؤكد أن هذه الدولة كانت عارية بالنسبة لي قبل أن أولد وبعد أن ولدت وحتى أموت، فأنا لن أغير مبادئي وقيمي حتى الموت، وهي لن تتنازل عن مثليتها السياسية وشذوذها العسكري حتى نهاية وجودها.
ولعل المقارنة بين عصر العولمة الأميركي والدكتاتوريات التقليدية قديمها وحديثها سيقود إلى نتائج متشابهة، فالدكتاتوريات لا تسمح للمواطن أن يعبر عن رأيه حتى إن كان يهدف إلى مصالح الوطن العليا وحتى إن كان صادقاً ومحقاً، والعولمة الأميركية تقدم للمواطن الجوع والتشرد والإهمال والأفكار التي تفود الى الجنون والانتحار أو إلى الشذوذ والمثلية وفقدان الكرامة والقيمة والشرف والضمير، ووجه التشابه بين النظامين يبدو واضحاً، فلا فرق بين السجن وامتهان الكرامات وبين الجنون والتشرد، ولا فرق بين الخوف والرعب وبين فقدان الكرامات والشذوذ والمثلية.
وأما في حرية الكتابة أو التعبير الحقيقي عن الرأي فمعدوم لدى الطرفين، فلا حق للمواطن أن يعلن رأياً مخالفاً لتوجهات السلطة وإن اختلف الأمر شكلاً بحيث تمنع الدكتاتوريات أي رأي مخالف فيما تمنع العولمة الأميركية ودولها أي رأيٍ مخالف واع.
ولذلك ظهر بعض الأدباء الكبار الذين استخدموا الرمزية أو ابتعدوا عن التعبير عن آراء صادقة في الكتابة عن واقعهم أو الهروب منه في العقود الماضية، ففي روسيا الدكتاتورية مثلاً ظهر دستويفسكي وتولستوي وبوشكين وتشيخوف، وفي مصر القومية ظهر نجيب محفوظ وأمل دنقل وأنيس منصور، وفي عراق البعث ظهر مظفر النواب وجبرا ونازك وبلند والبياتي، في حين اختار مواطنو دول العولمة الأميركية البلادة والضياع والمخدرات والانتحار والجرائم للهروب من واقعهم ومحاولة التعبير عن ذاتهم.
ولأنني مراقب جيد ومتابع موضوعي لمنحنى الحريات محلياً وإقليمياً وعالمياً، فإني أكتب الآن وبلا تردد أن هامش الحريات لم يرتق يوماً إلى مستوى يشعر من خلاله المواطن العادي بالارتياح وهو يعبر عن رأي حقيقي وصادق، وأن مستقبل الحريات مظلم مظلم في كل مكان إلى درجة يختفي من خلالها هامش الفوارق بين الدول الدكتاتورية ودول العولمة الأميركية، ولذا فإننا نلاحظ في كل الدول تقريباً تنمر القوي في الهجوم اللفظي والكتابي على الضعيف دون أن تمنعه السلطة، وخوف الضعيف من الدفاع عن نفسه خوفاً من السلطة، وبين الجلاد والضحية يغفو الأول ليلاً وهو يشعر بالتفاهة والحقارة، ويغفو الثاني ليلاً وهو يشعر بالقهر والكبت والرغبة في الانفجار، إنه زمن تخلف الحضارة وتفاهة المدنية وسطحية التقدم العلمي.