هل يكمن مستقبل الجيش الأميركي في أوروبا أم بآسيا؟
يواجه تحديات تحديث وحداته نحو «الحروب الذكية»
نشرت مجلة الايكونوميست تقريراً ترصد فيه تشابهاً بين التحديات التي واجهها الجيش الأميركي في بداية السبعينيات وبين وضعه الحالي، حيث يواجه لحظة حاسمة حول مستقبله.
ويشير التقرير إلى أنه في 1973 تعرضت القوات الاميركية لضربة كبيرة في فيتنام، مع إعلان وزير الدفاع آنذاك في بيناير انتهاء التجنيد الإجباري، وتلاه مغادرة آخر القوات القتالية فيتنام بعدها بشهرين، لكن الحرب العربية- الإسرائيلية التي اندلعت في يوم الغفران بأكتوبر من ذلك العام زرعت بذور التجديد. وقد ساعدت دروس تلك الحرب، التي استوعبها الضباط الأميركيون الذين تم إرسالهم إلى إسرائيل، في إعادة تشكيل الجيش الأميركي ليصبح القوة الحديثة والمهنية التي ستحرر الكويت في عام 1991.
وينقل التقرير عن الجنرال جيمس ريني، الذي يقود «قيادة مستقبل الجيش»، التي انشئت في 2019: «هناك تشابه فضفاض بين أوائل السبعينيات وجيش عاصفة الصحراء، والجيش الذي غزا العراق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأين يجب أن نكون في عام 2040».
لقد استنزفت الحرب التي دامت عقدين من الزمن في أفغانستان والعراق القوات والمعدات والأفكار، ولايزال التراجع في التجنيد دون حل، والآن كان صعود الصين والدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا سبباً في دفع القيادات المدنية والعسكرية إلى التأمل والتجديد والإصلاح.
وهناك ثلاثة أسئلة كبيرة لم تتم الإجابة عنها بين القادة المدنيين والعسكريين في الجيش، وفقًا لأشخاص مطلعين على تلك المناقشات، الأول هو ما إذا كانت التحولات العميقة في طبيعة الحرب، وبعضها واضح في أوكرانيا، قد تجعل القوات البرية أقل أهمية، إن لم تكن غير ذات صلة.
والسؤال الثاني هو كيفية موازنة الموارد بين آسيا التي يعتبرها البنتاغون أولوية وأوروبا، حيث تقوم روسيا بإعادة تسليح نفسها بسرعة، إذ يستطيع الجيش الاستعداد للصراعات في كلا المكانين، لكنه لا يستطيع فعلياً شن حربين في الوقت نفسه، ولم يعد يُطلب منه القيام بذلك بعد أن أنهت استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018 معيار «الحربين».
وهذا يقود إلى السؤال الثالث، والأكثر وجودية بالنسبة للجيش، فإلى جانب توفير الخدمات اللوجستية والدفاع الجوي، ما هو الدور الذي قد تلعبه القوات البرية في حرب مستقبلية في المحيط الهادئ؟
وعندما سُئل رئيس أركان الجيش الأميركي، الجنرال راندي جورج، أخيراً عن هذه المسائل، أشار إلى كتاب «أذرع المستقبل» للكاتب البريطاني جاك واتلينغ، الذي تحدث عن تمرين «المقاتل الحربي» الذي تنفذه الولايات المتحدة سنويا، وتراجعت خلاله فعالية الألوية المقاتلة بـ20 في المئة وتكبدت خسائر فادحة وهي تواجه أجهزة استشعار متطورة وأسلحة فتاكة وذخائر ذات مدى أطول، بينما تم تدمير مدفعية ودروع المشاة قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى مرمى العدو.
الحرب في أوكرانيا
وقد عززت الحرب في أوكرانيا هذه النتائج. ويقول الجنرال جيمس ريني «سنقاتل تحت مراقبة مستمرة، وعلى احتكاك دائم. ليس هناك استراحة ولا يوجد ملاذ»، مشيرا إلى أن فرقا أميركية كانت موجودة في أوكرانيا قبل الحرب واجهت بعض المفاجآت السيئة، فقد عملت القذائف والصواريخ الأميركية الموجهة بنظام (GPS) بشكل جيد في البداية، لكنها كافحت في الآونة الأخيرة ضد التشويش الروسي.
من جهته، أكد ضابط المشاة السابق والمخطط في البنتاغون بيلي فابيان، أن المعادلة الصعبة في إعداد الجيش للحروب المستقبلية الذكية تتمثل في خلق توازن بين قوة النيران والمناورة من ناحية، والعناصر التقليدية مثل المشاة والمدرعات من ناحية أخرى. وأضاف أن «خوض الحروب البرية هو سبب وجود الجيش، لكن (حالة) أوكرانيا تثير أسئلة صعبة وعميقة حول التصورات الذاتية للجيش».
ويخيّم على هذه الإصلاحات سؤال أكبر حول مكان الحروب المسقبلية. وقد دعت استراتيجيات الدفاع التي نشرتها إدارتا ترامب وبايدن البنتاغون إلى التركيز على الصين، لكن في الواقع، عزز الجيش الأميركي وجوده في أوروبا بعد الغزو الروسي، ونشر منذ ذلك الحين في القارة العجوز فيالق وفرقا، ولواء مشاة ومدرعات، وكتيبة مدفعية صاروخية، مقابل إرسال قوات أقل إلى آسيا.
واكتفى الجيش الأميركي لسنوات بحراسة القواعد وتوفير الدفاع الجوي والتعامل مع الخدمات اللوجستية في المحيط الهادئ، لكن قائد الجيش الأميركي في المحيط الهادئ، الجنرال تشارلز فلين، شدد على «أهمية آسيا خصوصا أن المنطقة تضم دولا كبرى كالهند وإندونيسيا، ولها قوات عسكرية ضخمة».
وأشار فلين في هذا الصدد إلى الوتيرة المتزايدة للتمارين (أكثر من 40 تمرينا سنويا) بالمنطقة، حيث ينتشر الجيش الأميركي في المنطقة لمدة ثمانية أشهر في العام.
ويعيد الجيش الأميركي بناء قدراته القتالية، ويستند على فرضية أن الصين قامت بتحسين قواتها لمهاجمة الأقمار الصناعية والسفن والقواعد الجوية الأميركية.
وذكر الجنرال برنارد هارينغتون أنه تم تشكيل 3 فرق من «قوات الدفاع متعددة المهام»، تركز الأولى منها على آسيا ويقودها بنفسه.
وتضم كل قوة أربع كتائب يمكنها نشر وحدات صغيرة على طول سلسلة الجزر التي تمتد من اليابان إلى الفلبين، ولا يمكنها الاشتباك على الأرض فقط، بل القتال في كل الميادين.
وعندما تقرر أميركا استهداف سفينة صينية، ستقوم هذه القوة بتشويش رادارها واختراق شبكاتها، وإذا لم يؤد ذلك إلى تحييد السفينة، فإنه يزيد من احتمالية اطلاق صواريخ مضادة للسفن. ويبلغ مدى الصواريخ بعيدة المدى التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والتي وصلت العام الماضي، أقل بقليل من 3000 كيلومتر، وهو ما يكفي للوصول من اليابان إلى تايوان، أو من الفلبين إلى بحر الصين الجنوبي.
وقد أظهرت التجارب الأولية مع قوات الدفاع متعددة المهام نتائج واعدة، غير أن الجنرال هارينغتون أشار إلى أن المناورة التي جرت في الفلبين العام الماضي كانت بمنزلة تذكير بأن قاذفات الصواريخ ومعدات الاستخبارات، التي تضم الكترونيات دقيقة، كانت أقل جودة في درجات الحرارة والرطوبة في آسيا الاستوائية مما كانت عليه في ساحة الاختبار الأميركية.
وتخصص حاليا اثنتان من «قوات الدفاع متعددة المهمات» لآسيا، والثالثة لأوروبا، فيما أقرت الخطة الأصلية تشكيل 5 فرق، مع واحدة إضافية في القطب الشمالي وواحدة للمهام العالمية.
ويبدو أن كل هذا يقدم إجابة حاسمة لأزمة هوية الجيش: آسيا أولا. ومع ذلك، هناك شكوك داخل البنتاغون، حيث قال بيتيغون إن «الجيش لايزال يشعر بالتهميش في منطقة المحيط الهادئ». غير أن فابيان أشار إلى أن أكبر تشكيل مخصص للمنطقة هو فرقة المشاة الـ25 في هاواي، وهي فرقة مشاة خفيفة، مضيفا «يبدو أن الجيش يحاول تحقيق الأمرين في كلا الاتجاهين».
وأكد مسؤولون أنه سيتعين على الجيش الأميركي اتخاذ خيارات حازمة في العام أو العامين المقبلين، لاسيما أنه يعتزم تشكيل وحدات جديدة رغم تراجع التجنيد للعام الثاني على التوالي، بالإضافة إلى تراجع جنود الاحتياط من 450 ألفا في 1994 إلى 76 ألفا في 2018.