نريد الديموقراطية لكن مخرجاتها غير ديموقراطيين، وهنا يكمن الفخ الذي لا يريد أحد أن يراه بل ويستمتع بالسقوط فيه في كل مرة، فمع انعزال الحركات السياسية الوطنية والتجارية التاريخية، وانحسار أعداد الساسة المحترفين المستقلين، تزامناً مع انحدار مستوى التعليم وانتشار الشهادات التي لا تشهد بشيء سوى جهل أو نصب حاملها، أصبحت الانتخابات النيابية لدينا، خصوصاً في الفصول التشريعية الأخيرة، لا تفرز لنا إلّا طبقات هي بطبيعتها وتكوينها التعليمي والوظيفي غير مؤمنة بالديموقراطية، ومطلوب منها في الوقت ذاته الرقابة والتشريع والدفاع عن الديموقراطية التي تراها مجرد سلّم ومحاربة الفساد التي هي أساساً من إفرازاته ونتائجه.
ومع أمثال هذه النوعية من المخرجات، فإن التغيير للأفضل سيكون أقرب للخيال العلمي منه للواقع، فالعسكري الذي اعتاد تلقّي الأوامر وتنفيذها وإعطاءها للآخرين لن يتقبل الاختلافات والنقاش والرأي الآخر بسهولة، ونظراً لمحدودية تجربته العملية خارج نطاق وظيفته، فهو غير قادر على تقديم الأفكار الجديدة والمفيدة عدا ملاحقة الحرامية الذين يراهم في كل مكان بأجهزة الدولة، فهو غالباً ما تسيطر على تفكيره أجواء المؤامرات والاستهداف من الأعداء، وكل من يخالفه هو بالضرورة صاحب مخطط خبيث، ولهذا لن تخرج اقتراحاته وتصريحاته عن هذا النطاق، والأمثلة واضحة أمامكم.
وأما رجل الدين الصادق فيفترض أنه يريد الآخرة، ومثل هذا لن يعرف بناء وإدارة دولة تحتاج لخبرات وكفاءات فنية وإدارية، كما أنه لن يستطيع قبول ألاعيب وقذارات عالم السياسة، أما إن كان متدثراً بالدين، كأغلبهم، فلن يكتفي بتخريب الدولة باسم الدين، بل سيشوّه صورة الدين في نفس الوقت، ضارباً عصفورين بحجر، ولن يجد راحته إلا بمراقبة أنفاس البشر والحجر عليها عوضاً عن قراءة الميزانيات وتقارير ديوان المحاسبة، فذلك ما يرضي قواعده الانتخابية ويضمن له الاستمرارية في تمثيل الشعب.
وتُكلل جهود الإخوة أعلاه بالدعم اللامحدود من زملائهم خريجي الجامعات المخرومة ممن يملكون ثقة الشهادة من دون علمها، ولديهم لوبي قوي بالشارع يدعمهم من زملائهم الأكاديميين، ومعهم لن تجد إلا تكراراً للشعارات وإقحاماً لكلمة «الشعب» و«الأمة» في كل جملة مع ألفاظ تحدٍّ وإقصاء وتخوين، فلا أرقام ولا أفكار ولا حاجة خالص، أما إذا أبدع أحدهم اقترح توزيع الأموال من سبيل الدولة العام، بعد كل هذا فإن خلط ورق اللعب و«خبص الجنجفة» وإعادة توزيعها لن يأتي بجديد، فذات الصور والأرقام ستأتي لكن بأيدٍ مختلفة والنتيجة واحدة، والأفضل والأصعب هو نفض التربة وتقليبها وانتظار النتائج بعد عقدين من الزمن على الأقل، وإلا فسنظل «نخبص» إلى ما لا نهاية، وإنتوا كيفكم عاد.