من صيد الخاطر: «جاء ليسرق فسرقناه» من صيد الخاطر
«جاء ليسرق فسرقناه»... قول وراءه قصة فيها عبرة للإمام مالك بن دينار البصري المكنّى بأبي يحيى، وهو من أعلام التابعين المعروفين بالزهد والورع.
إذ سطا لص على منزل الإمام مالك فما وجد ما يسرقه، فناداه: لم تجد شيئاً من الدنيا، أفترغب في شيء من الآخرة؟ قال اللص: نعم، قال: توضأ، وصلِّ ركعتين، ففعل، ثم خرجا معاً إلى المسجد، فسُئِل مالك من هذا؟ قال: «جاء ليسرق فسرقناه».
وروي عن الإمام مالك أنه مرّ يوماً في السوق فرأى تيناً عند أحد الباعة، فاشتاقت نفسه إليه، ولم يكن يملك ثمنه لضعف حاله، فطلب من البائع، الذي سمع عن مالك، ولم يكن يعرفه، أن يبيعه بعضاً من تينه على أن يدفع له ثمنه لاحقاً، إلا أن البائع رفض، فعرض مالك عليه أن يرهن عنده حذاءه مقابل هذا التين، فرفض ثانية، فانصرف مالك عنه.
وأقبل بعض الناس ممن سمعوا ما دار بين صاحب التين ومالك، وأخبروا البائع أن الشيخ الذي قد رفض بيعه التين هو الإمام مالك بن دينار، وما أن عَلِم البائع بهوية الشيخ حتى أمر غلامه بأخذ عربة التين إليه، وقال له: إن قبلها فأنت حر لوجه الله.
فرح الغلام بذلك الوعد، واستسهل الأمر، فذهب من فوره إلى مالك عازماً أن يبذل كل ما في وسعه ليقبل التين المرسل إليه، ففي قبوله حريته.
فوجئ الغلام برفض الإمام للتين، وبقوله: اذهب إلى سيدك، وقل له: إن مالك بن دينار لا يأكل التين بالدَّين، وإنه حرّم على نفسه أكل التين إلى يوم الدين، فقال له الغلام متوسلاً: يا سيدي خذها فإن فيها عتقي، قال مالك: إن كان فيها عتقك فإن فيها رِقّي، قاصداً أن شهوته لأكل التين قد أذلته، وأن بطنه أهانه، فأدّب نفسه وحرّم عليها أكل التين تهذيباً لها.
وقيل: إن المهلب (قد يكون المقصود هنا المهلب بن أبي صفرة) مر على مالك بن دينار متبختراً، فقال له: أما علمت أن هذه مشية يكرهها الله إلا بين الصفين، أي إلا وأنت في وضع القتال؟ فسأله المهلب: أولم تعرفني؟ فرد قائلاً: بلى، أولُك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر المهلب، ورد قائلاً: الآن عرفتني حق المعرفة.
فكم منا عزيز نفس كمالك بن دينار عاف ما اشتاقت له نفسه؟ وكم صاحب جاه وصيت فعل ما فعله أبويحيى، فرفض هدية ما كان يستحقها لولا منصبه أو سمعته أو سلطته؟