تجربة كانت كما الحلم
عندما تجتمع مشاعر الفرح والسعادة بالعيد الوطني والأسى لحل مجلس الأمة، يدمع قلبي قبل عيني في يوم أشارك فيه وغيري، شعب الكويت سروره وابتهاجه بعيده الوطني، وأنا أتابع هذا الحدث الجلل، وأنا أرى مسماراً تلو مسمار يدق في نعش الديموقراطية في الوطن العربي في أرجائه كافة، وقد كانت الكويت الحلم في الحق والعدل والحرية، المقومات الأساسية للمجتمع الكويتي، وفي ظل هذه المبادئ عاشت التجربة الديموقراطية الكويتية تنبض بالحياة، لتكون نموذجاً ومثلاً طيباً في الوطن العربي، فكانت كما الحلم، الذي يراودني يوما بعد يوم، في أن تعم الديموقراطية الوطن العربي كله، متمنيا أن يكون حل مجلس الأمة كسحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، وتعود لهذه التجربة سيرتها الأولى وإشراقها على الوطن العربي كله.
من منظور دستوري وقانوني
لا أملك سوى أدواته بعيداً عن أي استنتاجات، تبنى على أي تحليل سياسي أو تقييم لمعاني العبارات التي وردت على لسان النائب المحترم د. عبدالكريم الكندري في جوابه على الخطاب الأميري، وبعيداً عن أي تقييم للشبهة التي علقت بهذا الجواب، سواء في المساس بذات الأمير أو محاسبة سموه ومساءلته، والتي ابتني عليها مرسوم حل مجلس الأمة بمخالفة هذا الأمر لأحكام الدستور... وأسوق ما يلي:
أولاً: حرية النائب مطلقة في عرض آرائه وأفكاره داخل البرلمان
وهي الحصانة البرلمانية، التي كفلتها المادة (110) من الدستور فيما تنص عليه من أن «عضو مجلس الأمة حر فيما يبديه من الآراء والأفكار بالمجلس أو لجانه، ولا تجوز مؤاخذته عن ذلك بحال من الأحوال». وهي تختلف عن الحصانة القضائية المنصوص عليها في المادة (111)، والتي قيدها الدستور بقيود شتى، منها زوالها وإمكان محاسبة العضو ومساءلته، بعد انتهاء دور الانعقاد، وعدم قيامها في حالة التلبس، وضرورة صدور قرار من مجلس الأمة بالإذن برفعها.
ثانياً: حرية النائب مطلقة في نقد برنامج عمل الحكومة
وقد كان الدستور حريصا على أن يجمع بين الخطاب الأميري المنصوص عليه في المادتين (104 و105) من الدستور، وبين برنامج عمل الحكومة المنصوص عليه في المادة (98) من الدستور، في آن واحد في افتتاح البرلمان، إلا أن الدستور أفرد لكل منهما أحكاما يستقل بها.
فيما تنص عليه المادة (98) من الدستور من أن «تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الامة، وللمجلس أن يبدي ما يراه من ملاحظات بصدد هذا البرنامج»، فالدستور قد فتح الباب على مصراعيه للنائب، لا ستخدام حريته المطلقة في إبداء آرائه وأفكاره، في نقد البرنامج الحكومي، فيما نصت عليه هذه المادة من أن «للمجلس أن يبدي ما يراه» بصدد هذا البرنامج.
وتضيف المذكرة التفسيرية للدستور «والمجلس طبعا يناقش البرنامج جملة وتفصيلا» ثم «يضع ملاحظاته مكتوبة» و«يبلغها رسميا للحكومة» و«هي (الحكومة) كمسؤولة في النهاية أمام المجلس» لابد «أن تحل هذه الملاحظات المكان اللائق بها وبالمجلس».
أما الخطاب الأميري فقد أفرد له الدستور المادتين (104 و105)، فنصت المادة (104) من الدستور على قيام الأمير في افتتاح دور الانعقاد بإلقاء خطاب أميري يتضمن بيان أحوال البلاد وأهم الشؤون العامة التي جرت خلال العام المنقضي، وما تعتزم الحكومة إجراءه من مشروعات وإصلاحات خلال العام الجديد.
وحيث تنص المادة (105) من الدستور على اختيار مجلس الأمة «لجنة من بين أعضائه لإعداد مشروع الجواب على الخطاب الأميري، متضمنا ملاحظات المجلس وأمانيه، وبعد إقراره من المجلس يرفع إلى الأمير».
والبين من النص الأخير أن الدستور استخدم أحكاما وعبارات تليق بمقام صاحب السمو ومكانته في قلوب شعبه، بتكليف لجنة من أعضاء المجلس بإعداد «جواب» على الخطاب الأميري، (وليس ردا) على الخطاب، أو (نقدا) أو تعليقا متضمنا هذا الجواب «ملاحظات المجلس وأمانيه»، كما نص على «إقرار المجلس لهذا الجواب»، وبعد هذا الإقرار يرفع «المجلس» إلى الأمير (وليس يبلغ رسميا).
تغمد الله برحمته من صاغ هذه النصوص بيراعه الجميل وبراعة ليس لها مثيل، ليرسي ضمانة أساسية، هي وحدة الوطن واستقرار الحكم، التي هي العمود الفقري للدستور، والتي تقوم على روح الأسرة التي تربط أبناء الوطن جميعا، حكاما ومحكومين، حسبما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور.
ثالثاً: الحق الدستوري ليس حقاً مطلقاً
هذا ما أرسته المحكمة الدستورية في الكويت من مبادئ في قرارات تفسيرها لنصوص الدستور المختلفة، ومنها نص المادة (99) من الدستور من أن الحق في الرقابة البرلمانية، سؤالا كان أم استجوابا، يقف في مقابلة حق الفرد في حماية خصوصياته، بما يوجب التوفيق بينهما بالتنسيق والمواءمة على نحو تحقيق مصلحة المجتمع. (القرار رقم 2 لسنة 1982- جلسة 8/11/1982)، فالتوفيق بين نصوص الدستور هو المنهج الأصيل في مجال تفسير هذه النصوص، وقوفا عند الغاية التي استهدفت من تقريرها والغرض المقصود منها والذي يفترض أن يكون النص محل التفسير معبراً عنه ومحمولا عليه، بالتقريب بين النصوص، وإعمال قواعد التخصيص والتقييد (قرار التفسير رقم 10 لسنة 2002- الصادر من المحكمة الدستورية بجلسة 2/2/ 2003).
وإذا كانت المحكمة الدستورية في قضائها سنة 1982 قد طبقت هذا المنهج الأصيل في تفسير نصوص الدستور في تقييد هذه الرقابة البرلمانية، بالحق في الخصوصية، لأفراد الناس عامتهم وخاصتهم، فإن تقييد هذه الرقابة على السلطات كافة التي خرجت من رحم الدستور أن تتقيد، من باب أولى بما تنص عليه المادة (54) من الدستور من أن «الأمير رئيس الدولة ذاته مصونة لا تمس»، وذلك من باب أولى، وقد قيدت المحكمة الدستورية السلطة التشريعية بالحق في الخصوصية، لعامة الناس وخاصتهم، وقد أقسم أعضاؤها على احترام الدستور.
وقد جاء في استهلال المذكرة التفسيرية للدستور– وهي ملزمة بشأن نصوص الدستور ذاته– في تصويرها لنظام الحكم حرص الدستور (على أن يظل رئيس الدولة أبا لأبناء هذا الوطن جميعا) ثم (نأى بالأمير عن أي مساءلة سياسية وجعل ذاته مصونة لا تمس). (مادة 54)، كما أبعد عنه مسببات التبعة بالنص على أن يتولى سلطاته بواسطة وزرائه. (مادة 55).
ولهذا تبوأ الجواب على الخطاب الأميري مكانه اللائق به خلال الفصول التشريعية المتعاقبة منذ بدء الحياة البرلمانية في 31 يناير سنة 1963 دون أن يثير الجواب على الخطاب الأميري في هذه الفصول، أي أزمة سياسية بين سمو الأمير والحكومة من ناحية، وبين هذا المجلس من ناحية ثانية، أو أي شائبة تشوب المناقشات التي دارت حول الخطاب الأميري، في أدوار انعقاد كافة هذه الفصول.
ولا غرو في ذلك وقد جاء هذا العرف متوافقا مع ما أضافته المذكرة التفسيرية للدستور كذلك من أنه «فلقد امتاز الناس فى هذا البلد عبر القرون، بروح الأسرة تربط بينهم كافة، حكاما ومحكومين، ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية، ما خلفته القرون المتعاقبة فى معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم، ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن يظل رئيس الدولة أباً لأبناء هذا الوطن جميعاً.
تهنئة بالعيد الوطني
وقبل أن أختم هذا المقال أهنئ الكويت وشعبها، بعيدها الوطني، ولا أملك في سياق هذه التهنئة، إلا بيتين من الشعر أقولهما في هذه المناسبة:
لي موطن في ربوع النيل أعظمه
ولي في حمى الكويت موطن ثاني
حسبت نفسي نزيلا بينكم فكنتم
أهلي وصحبي وأحبائي وجيراني
أعاد الله هذا العيد على الكويت وعلى الأمة العربية والإسلامية باليمن والبركات، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية حول وجوب تعديل اللائحة الداخلية، لصون ذات الأمير.