يخاطب الباحث محمد حمود البغيلي من يعنيهم الأمر «بتأهيل القادة» للاطلاع على ما قام به من محاولة لجمع وإعادة تبويب أهم ما كتب عن الآداب السلطانية من خلال كتابه «الدهاء السياسي» متناولاً فن القيادة والحكم من منظور الآداب السلطانية.
ارتبطت عبارة الدهاء السياسي بمعنى الذكاء والفطنة، وهو ما اتفق عليه في وصف «أعظم وأذكى الملوك» الذين أتقنوا فنون السياسة والمكر في الحروب.
أهمية الكتاب أنه يناقش آليات ترسيخ قوة السلطة وهيبة السلطان وتأكيد شرعيته، لأن مصلحة بقاء الملك وحماية الدولة أهم من المجاملات.
عناوين مثيرة ولافتة اختارها بعناية لا تزيد على العشرة، واحد منها جاء بعنوان «دهاء الكاتب في قلمه» نقتطف منه بعض المقاطع، تعميماً للفائدة، حيث ينقل الدكتور عبدالحليم حسين الهروط في كتابه «الرسائل الديوانية في مملكة غرناطة» عن اعتناء المسلمين بالكتابة منذ بداية دعوتهم، إذ أعطوها جل اهتمامهم حتى أصبحت الكتابة «من أشرف الصنائع وأربحها... والحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها».
الكتابة السلطانية أعلى مناصب الوجاهة، وأعلى مراتب النباهة كما ذكر موسى بن حسن الموصلي، فقد تأسس ديوان الرسائل ليصبح بعدها اسمه ديوان الإنشاء، الذي تطور ليصبح جهازاً مستقلاً يعمل على الكتابة والمراجعة وخدمات الختم والإرسال، وهذه العملية المتناسقة الخطوات لا تتم إلا تحت أعين السلطان وموافقته أو من ينوب عنه من الحجاب أو الوزراء، وهذا ما يجعل للكتاب أهمية، فالأوامر تأتي مباشرة من الحضرة السلطانية وتوجيهاته هو المسؤول عن بلاغتها وقوة ألفاظها في بلوغ معانيها وغاياتها.
ولم تقتصر الكتابة السلطانية على الرسائل، بل شملت صياغة المعاهدات ومراسم التعيين والعزل، وإعطاء الامتيازات أو العقوبات، أي أن ديوان الإنشاء هو العمل بشؤون الدولة داخليا وخارجياً، مع ربط ديوان لإنشاء أجهزة الدولة الأخرى بعضها ببعض، إضافة إلى أنه أحيانا يوجه السلاطين كتابهم لنقل رسائل شفهية ذات أهمية سياسية وحساسة إلى نظرائهم.
قيمة أخرى للرسائل الديوانية، إذ تعد مصادر قيمة تؤرخ للدولة وتبين علاقة الحاكم بالمحكوم والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الدولة بالدول الأخرى، وليس العرب وحدهم من أدركوا أهمية الكاتب في عملية الحكم بل إن الفرس يصفون كتاب الرسائل بأنهم تراجم الملوك، لأنهم ركيزة الدولة في السلم والحرب، فهم ألسنة الملوك في كل وقت وأركان الدول، والملوك أحوج إلى الكتاب أكثر من حاجة الكتاب إلى الملوك حسب قناعة القلقشندي، لأنه كما كتب في كتاب مستودع العلامة لأبي الوليد بن الأحمر بأنه كم من كتيبة جرارة قضى جمع جموعها كتاب، فالكاتب هو وكالة الأنباء والبشير والنذير والشفيع والسفير كما يذكر الحريري في مقامته الفراتية.
يقول علي بن خلف الكاتب: «إن صاحب هذه الرتبة»، أي الكاتب «هو لسان الملك الناطق بحججه، المترجم عن عقله ومقالته، وحلية المملكة وزينتها، يرفع ذكرها ويعلي قدرها ويعظم خطرها، ويدل على فضل ملكه ورئيسها، وهو المتصرف عن السلطان في الوعد والوعيد والترهيب والترغيب، واقتضاب المعاني التي تقر الولي على ولايته وطاعته وتبعد العدو القاصي عن عداوته ومعصيته».
أين نحن في القرن الحادي والعشرين من «دهاة» الكتّاب، هل تبدلت المواقع والأدوار؟ أم تغير الخطاب من الأعلى وتدحرج بالنزول إلى الطبقات الأدنى.