لطالما اعتاد العامة على سماع بعض المعلومات المغلوطة فيما يتعلق بالتاريخ وبالأخص الجاهلي، فكلما قدم الحدث ازداد اللغط علاوة على استمرار رواية المنتصر، لكنني كنت دائما أجزم بنظرية خاصة بي أن بعض الشخصيات والأحداث حقيقية، خصوصاً تلك التي يختلط بها الحابل بالنابل والطرفة مع الجد والحقيقة مع الخيال، وعليه يتسبب كل هذا ببلبلة عظيمة لدى القراء مع الأيام وحتى مع بعض أهل التاريخ مع الأيام لاسيما مع استخدام القليل من «الكناية» والإعجاز اللغوي لدى بعض المؤرخين التي تعطي القصص توابل وبهارات خاصة، فتجعل من الحقيقة شيئا يشبه الأسطورة الحية وتعظم من شأن المخطئ وتقلل من أهمية الطرف الآخر.
فحتما لا يضرب عنترة ضربة السيف فيصرع بها عشرة فرسان، ولا يصرخ ابن الورد بين الجبال فتهتز، ولا حتى المهلهل الزير يسحق جماجم السباع بيديه ليتسلى ويقضي ساعات العصر، ولكن حتماً هناك شخصية مظلومة الى حد ما في التاريخ الجاهلي، وهي للشاعر الرحالة المُنَخَّل اليشكُري الذي كنت ومازلت أعتقد أنه هو السبب في إطلاق «أسطورة السندباد البحري» وتسللها إلى مجموع حكايا الحكواتية التي أصبحت فيما بعد تكنى بقصص «ألف ليلة وليلة».
المنخَّل «الوسيم» المبدع وصاحب الشعر الرقيق والحس الفكاهي الدعابي وساحر قلوب بنات حواء، هو أيضا ذو النسب الرفيع العربي من الأقحاح وصاحب الأبيات الشهيرة التي يقول في مجملها:
وَلَقَـــدْ دَخَلْتُ عَلَى الفَتَـا ةِ الخِـدْرَ فِي الْيَوْمِ الْمَطِيرِ
الْكَاعِـبِ الْحَسْـنَاءِ تَرْ فُلُ فِـي الدِّمَقْسِ وَفِي الْحَرِيرِ
فَدَفَعْتُــــهَا فتَــدَافَعَتْ مَشْـــيَ الْقَطَـــاةِ إِلَى الْغَدِيـرِ
وَلَثَمْتُـــــهَا فَتَنَفَّسَــــتْ كَتَنَفُّـــسِ الظَّبْـيِ الْبَـهِيـرِ
فَدَنَـــتْ وَقَالَـــتْ يَامُنَ ــخَّلُ مَــا بِجِسْـمِكَ مِنْ حَرُورِ
مَا شَفَّ جِسْمِي غَـيْرُ حُـ بِّكِ فَاهْدَئِي عَنِّـي وَسِـيرِي
وَأُحِــبُّـــــهَا وَتُحِـبُّــنِي وَيُحِـــبُّ نَاقَــــتَها بَعِــيــرِي
مشكلة المنخَّل، علاوة على دهائه وسلاطة لسانه ومزامنته دولة المناذرة والغساسنة ولسانه «المسحوب منه» أحيانا، أنه أيضا كان من جلاس الملك (أبي قابوس) النعمان بن المنذر ابن ماء السماء ذاك الملك المزاجي جدا الذي حكم من موقعه في (الحيرة) حكما ممتدا الى أواسط جزيرة العرب، وقيل أيضا إن الأبيات الشعرية السالفة كانت سبب مصرعه لأنها كتبت في زوج النعمان، والله أعلم إن كانت تلك الرواية صحيحة أم لا، أم أن المنخَّل قد قتل في إحدى مغامراته وأسفاره البحرية وقد رميت جثته بعيداً في أحد البحار السبع.
لكن الثابت الأصيل أن الملك النعمان كان صاحب مزاج حاد يترنح بين الطيبة تارة والعدوانية تارة أخرى، الى درجة أن كل محاسنه ومناقبه تتلاشى وتذوب في صفحات التاريخ مقابل طريقة إدارته للدولة السيئة وتقلب مزاجه الذي كان سببا رئيسا في انهيار ملك المناذرة.
مات المنخَّل ومات النعمان وبقي ذكر الأول ولعن التاريخ في مواضع عدة الثاني، ولكن دمجت القصتان في أحداث السندباد (من وجهة نظري) الى يومنا هذا مع درس مستفاد أساسي في فنّ الإدارة والحكم وهو أن المزاجية والتخبط قاتلان للهمم والدول.
على الهامش:
مرافعة دولة الكويت في محكمة العدل الدولية إزاء الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيوني تبين لك أن حجم الدول لا يقاس بالكيلومترات المربعة بل بالمواقف التاريخية المشرفة.
هامش أخير:
تطبيق القانون وتفعيله في منع تراشق البالونات على المارة الذي كان لسنوات من الأعراف والتقاليد السيئة في هذا الوقت من السنة تزامنا مع الأعياد الوطنية، لعمري هو أمر حميد، ويبقى سؤال المليون: إن كان هناك قانون يمنع هذه الممارسة فلمَ لم يفعل سابقا؟!! على الأقل إن لم يكن من مبدأ احترام المارة والذوق العام فليكن حفاظا على البيئة والمياه!!