من صيد الخاطر: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ»
«صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ»، مثل يُقصد به أن أصدقني الحديث عن سن أو عمر البَكْر، أي الفتيّ من الإبل، وهو كمنزلة الفتي من الناس، وجمعه أبكار، والأنثى بكرة، وجمعها بكرات، وهو مثل عربي قديم يوجَّه للرجل الذي يُوحي بصدق أقواله ولكن تحوم حول صدقه الشكوك، ووراء هذا القول حكاية.
فيروى أن رجلاً ساوم رجلاً في بَكْرٍ، فسأله عن سنّه، فقال صاحبه: بازل، أي قد طلع له للتو ناب. وصادف أن نفر البكر وهاج، فقال له صاحبه ليهدئه: هِدَعْ هِدَعْ، وهذه لفظة يُسَكَّن بها الصِّغار من الإبل، فلما سَمع المشتري هذه الكلمة، قال للبائع، وقد شك في صدق كلامه عن عمر البكر: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ».
استعان بهذا المثل سيدنا علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، فقد رُوي أنه قيل له: إن بني فلان وبني فلان اقْتَتَلُوا فغَلَبَ بنو فلان، فأنكر ذلك، ثم أتاه آتٍ غيره فقال له: بل غُلِب بنو فلان من بني فلان، فقال علي، رضي الله عنه: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ».
كما استعان بذلك المثل معاوية بن أبي سفيان، فقد دخل عليه الأحنف بن قيس، وهو أحد سادة بني تميم المُهابي الجانب، على معاوية بن أبي سفيان، الذي أصبح خليفة بعد استشهاد الخليفة علي بن أبي طالب، فعاتبه معاوية، لأنه حارب ضده في معركة صفّين، وقال له: أنت الشاهر سيفك علينا يوم صفين، والمخزل، أي المعتزل، عن أم المؤمنين يوم الجمل، فقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تمش إلى الحرب نهرول إليها. فلما خرج الأحنف من مجلس معاوية، قيل له: ما صنع بك؟ وما قال لك؟ قال: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ»، أي خَبَّرني بما في نفسه، وما انْطَوَت عليه ضُلوعه.
فكم من سياسي، وكم من مدَّعي سياسة، وكم من نائب ووزير، وكم وكم من متنفذ وأجير سيُسأل والشكوك تحوم حولهم: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ» في كل ما قال ووعد؟ وما أكثرهم، لكنهم كغثاء السيل، لا منهم منفعة، ولا يُرجى من ورائهم خير، فما وراءهم إلا الضرر.