لماذا شكل اغتيال رفيق الحريري خسارة كبرى؟
لا تزال ندوب اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق الشهيد رفيق الحريري محفورة في وجدان الشعب اللبناني الذي أدرك– بالواقع والشواهد- أن ما قبل تاريخ 14/2/2005 ليس كما بعده، فأين الاستقرار السياسي؟ وأين الازدهار الاقتصادي؟ وأين التوازن الطائفي؟ وأين الانصهار الاجتماعي؟ وأين الدولة بالأساس؟
فمهما اختلفنا مع بعض آراء الشهيد أو انتقدنا جانباً من أدائه، ومهما تجنّى عليه الخصوم أو استغل اسمه المتملقون، فلا شك أن التاريخ أنصف الشهيد في مماته أكثر مما فهمه البعض في حياته، وأعدل مما عومل أثناءها بأحكام مسبقة.
فبموضوعية تامة، وبعيداً عن أي انتماء أو ولاء، يدرك الجميع أن لبنان والعالمين العربي والإسلامي فقدوا شخصية استثنائية كانت تتمتع بمواصفات ودينامية قلّ نظيرها عند كثير من السياسيين، الأمر الذي دفع الخصوم قبل الأصدقاء الى تكرار المطالبة بعودة نجله الرئيس سعد الحريري عن قراره بالاعتكاف عن السياسة، وذلك في سياق التمسك بالنهج الوطني والعروبي المنفتح الذي رسم ملامحه الرئيس الشهيد.
رجل العطاء
لم يكن الشهيد الحريري، الملياردير العصامي، شخصية سياسية فحسب، بل كان رمزاً وطنياً يشهد الجميع لاعتداله وسخائه، فلم يستطع أي من سياسيي لبنان مجاراته بالانفتاح ولا منافسته بالعطاء اللذين شملا جميع المكونات المذهبية والمناطقية في لبنان.
ورغم تشكيك البعض بنوايا الرئيس الشهيد، وربطهم بين طموحاته السياسية ومبادرته في تعليم أكثر من 35 ألف طالب على نفقته في أرقى جامعات لبنان والعالم، يأتي الرد منطقياً بصيغة سؤال استنكاري: ما الأفضل للوصول الى قلوب الناس والتربع على سدة المسؤولية بأصواتهم، امتطاء جواد الخير والبذل؟ أم امتشاق سيوف الحرب واستخدام سياسة الزبائنية على قاعدة «فرّق تسد»؟
رجل الاعتدال والتوازن
لا شك أن الرئيس الشهيد شكّل ما بعد الحرب الأهلية الطاحنة، بارقة أمل ساهم في إخمادها كل من هاله تنامي اسمه ودوره، كما شكّل فرصة نهوض سعى الى تفويتها كل من لا يريد للبنان أن يزدهر وكل من لا توافقه «الصيغة اللبنانية» ودورها المميز في المنطقة والعالم.
«الصيغة اللبنانية» القائمة على التوازن بين مكونات المجتمع اللبناني كانت واضحة المعالم في زمن الشهيد وفي رؤيته التي كان يعمل على تحقيقها بنَفَس طويل وايقاع منضبط، هذه «الصيغة» التي يخشاها الأعداء أعطت للبنان بريق ماضيه، وأخافت منافسيه من مستقبل واعد لبلد صغير يملك كل إمكانات النجاح والتفوق.
عبارة «وقّفنا العدّ» التي كرّرها الرئيس الشهيد في أكثر من مناسبة لم تكن مجرد رسالة عاطفية أو مجاملة سياسية دغدغ فيها رياءً مشاعر مسيحيي لبنان، بل كانت قناعة راسخة لديه وفعلاً يطابق القول، ونترك لعين الموضوعية أن تثبت ذلك من خلال ما يذكره التاريخ عن نهج الشهيد والخلطة الوطنية للمقربين منه.
من جانب آخر، قد تفوت البعض ملاحظة أن لبنان قبل الاغتيال المدوّي كان لديه أهم شخصيتين «سنية» و«شيعية» تجاوزت شعبيتهما وحضورهما حدود الوطن ليكون دورهما عنصراً مؤثراً في السياسات الإقليمية والدولية، فكان الرئيس الشهيد، بما لديه من علاقات وإمكانات، الزعيم السنّي الأكثر تأثيراً وتأثراً بالمحيط والعالم، وشكّل السيد حسن نصرالله رأس الحربة الشيعية في الصراع الإسلامي-الإسرائيلي.
ومن هنا نتلمّس أكثر خطورة وأبعاد اغتيال الرئيس الشهيد الذي أريد منه، قبل أي هدف آخر، الإخلال بالتوازن الدقيق بين المكونات الإسلامية في منطقة تعيش فوق بركان طائفي متأجج تحت السطح ومؤهل للانفجار في أي لحظة!
رجل الإعمار
لبنان في زمن رفيق الحريري، كان ينبض- كما الشهيد- بالحركة والحيوية السياسية والاقتصادية... وقد قيل الكثير عن ورشة إعادة إعمار وسط بيروت وتحديث البنية التحتية في لبنان بأكمله، والتي عابها أن الشهيد جامل فيها– تحت ضغط الخشية من المكر والعرقلة- صنّاع الحرب وسرّاق السلم الذين طبق عليهم وعلى زبائنيتهم المثل اللبناني القائل «طعمي التم تستحي العين»!
وقد يبرر البعض ذلك بأن جذب الاستثمارات الأجنبية لأي بلد يحتاج حتماً لنقطة انطلاق تشكل قصة نجاح من شأنها تعزيز الثقة في خطط وجهود الدولة المستضيفة، فما بالك في دولة خرجت للتو من حرب أهلية دمّرت البشر والحجر وأبعدت المجتمع اللبناني لأكثر من عقد ونصف عن مسار الازدهار والتنمية؟
رجل العلاقات الدولية
تجاوز دور الرئيس الشهيد الساحة اللبنانية المحلية، ليشارك بحضوره اللافت وإمكاناته الكبيرة في صناعة وتوجيه السياسات العربية والعالمية لمصلحة القضايا اللبنانية والشرق أوسطية.
ويذكر في السياق نجاح الشهيد في نسج شبكة علاقات مميزة ومتينة مع الزعماء والرؤساء وكبار المؤثرين السياسيين والاقتصاديين في العالم- وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ومهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي السابق- الأمر الذي استخدمه لمصلحة لبنان والعرب في كثير من المناسبات والمفاصل الكبرى، اذ ينسب له مثلاً نجاحه بالوصول الى «تفاهم نيسان» الذي أوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1996، كما لا تنكر جهوده ودبلوماسيته التي ساهم من خلالها بتقريب وجهات النظر بين بعض الأنظمة العربية والدول الغربية.
رحم الله الرئيس الشهيد رفيق الحريري رجل الانفتاح والبناء والمقاومة الذي مهّد بالعلم والعمل لمستقبل واعد يعيشه لبنان القوي في عالم عربي مزدهر، والذي شيّد بعزيمة ووطنية ما هدّمته الحرب الأهلية وسعى الى ترميم وتمتين الجبهة الداخلية لمقاومة كل أنواع العدوان على لبنان.
* كاتب ومستشار قانوني.