ما الذي يضمن انتصار الديموقراطية؟
تتعدد الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الانتخابات الأميركية النصفية، أبرزها ترشّح عدد مقلق من ناكري نتائج الانتخابات الرئاسية في دوائر لا تحتدم فيها المنافسة، ففي أنحاء البلد، بدأ عشرات المرشحين لعضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ ومناصب حكومية أخرى يصلون إلى السلطة، علماً أنهم كانوا قد رفضوا الاعتراف بنتائج انتخابات عام 2020، إنه أحدث مؤشر على ما يعتبره بعض المراقبين تراجعاً ديموقراطياً خطيراً في أنحاء الغرب، فبرأي هذا المعسكر، وصل صدى الهجوم على مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة، في 6 يناير 2021، إلى أوروبا الغربية، حيث حققت أحزاب اليمين المتطرف في الفترة الأخيرة نجاحاً مبهراً في إيطاليا والسويد، وكسبت قوة مستجدة في فرنسا.
أمام هذه النزعة الواضحة، يشعر المحللون بالخوف من أن «يُسرّع أعداء الديموقراطية الليبرالية هجومهم حول العالم»، كما ذكرت منظمة «فريدم هاوس» غير الربحية في أحدث استطلاع عالمي لها، ومثلما يعتبر الكثيرون ارتفاع عدد من ينكرون نتائج الانتخابات، ويؤيدون نظريات المؤامرة، ويستخفون بحركة التمرد في الحزب الجمهوري، دليلاً على تآكل المعايير الديموقراطية الراسخة، هم يعتبرون فوز حزبَي «إخوة إيطاليا» و«ديموقراطيو السويد» ذات الجذور اليمينية المتطرفة مؤشراً على عودة الفاشية وتلاشي الديموقراطية، بما في ذلك داخل أوروبا الغربية التي تعتبر الديموقراطية مسألة بدهية.
لكن تغفل هذه النظرة التشاؤمية عن تنوّع السياقات السياسية التي تحصل فيها هذه التطورات، فتتعدد الأسباب التي تدعو إلى القلق من الحركات اليمينية المتطرفة طبعاً، لا سيما تلك التي تنكر نتائج الانتخابات أو تحاول إضعاف المؤسسات الديموقراطية، لكن تبرز اختلافات واضحة بين ما حصل في بعض البلدان الأوروبية، حيث تتخذ الأحزاب اليمينية المتطرفة سابقاً منحىً معتدلاً مع مرور الوقت، والولايات المتحدة حيث يتبنى أحد الحزبَين الأساسيَين أفكاراً يمينية متطرفة ومعادية للديموقراطية، وبدل إثبات المخاطر التي تتعرض لها الديموقراطية الأوروبية إذاً، يدعونا تطور حزبَي «إخوة إيطاليا» و«ديموقراطيو السويد» إلى شكلٍ حذر من التفاؤل، وعلى غرار عدد كبير من الأحزاب اليمينية الأخرى في أوروبا الغربية، يحمل هذان الحزبان جذوراً متطرفة لكنهما أدركا أن كسب الأصوات والنفوذ السياسي يتطلب الابتعاد عن تلك الجذور، وتعديل دعواتهما وبرامجهما السياسية، والتعهد بالالتزام بالمعايير الديموقراطية.
يعكس تطور بعض الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية معلومة أساسية، ولو أنها غير منطقية للوهلة الأولى، حول العلاقة بين التطرف والديموقراطية: لا ترتبط قدرة الجماعات المتطرفة على تهديد الديموقراطية بهوية تلك الجماعات بقدر ما تتعلق بطبيعة الديموقراطيات التي تنشأ فيها، وحين تكون المعايير والمؤسسات الديموقراطية ضعيفة، قد لا يتشجع المتطرفون على تعديل مواقفهم لأنهم يستطيعون كسب المؤيدين أو النفوذ من دون الامتثال للقواعد السائدة، لكن إذا كانت المعايير والمؤسسات الديموقراطية قوية، يضطر المتطرفون لتعديل مواقفهم نظراً إلى قلة الدعم الذي تحظى به الدعوات المتطرفة أو المعادية للديموقراطية، وإلا ستتمكن مؤسسات أو أطراف سياسية أخرى من إبقائهم خارج السلطة في جميع الأحوال.
هذه الظروف تؤثر مباشرةً على طريقة التحكم بالتهديدات المطروحة على الديموقراطية في أي مكان، بما في ذلك الولايات المتحدة، وقد يصعب إصدار الأحكام على الأحداث السياسية المتلاحقة بكل تجرّد، لكن طرحت الحركات السياسية الراديكالية أو المتطرفة تحديات واضحة على الديموقراطية في الماضي أيضاً، ويمكن تقييم تلك الحالات لاستخلاص الدروس منها، ويكفي أن نراجع مصير الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية خلال الفترة الفاصلة بين الحربَين العالميتَين وبعد الحرب العالمية الثانية، وعلى مر تلك العقود، واجهت الأنظمة السياسية في البلدان الأوروبية تغيرات واسعة النطاق، فاقتربت من الديموقراطية أو ابتعدت عنها.
تتّضح أهمية تطور النزعة الشعبوية اليمينية في أوروبا الغربية عند مقارنتها بتطورات مشابهة في الولايات المتحدة، ففي أواخر التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، حين أدركت مجموعة كبيرة من الأحزاب الشعبوية اليمينية أنها مضطرة لتعديل خطاباتها وتصرفاتها لحصد أصوات الناخبين وكسب النفوذ، بدأ الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة يسير في اتجاه معاكس، فأصبح خطابه سلبياً ومثيراً للانقسامات أكثر من أي وقت مضى، واتخذت سياساته المعتدلة طابعاً محافِظاً، وباتت تصرفاته في الكونغرس ترتكز على عرقلة الفريق الآخر، فقد جاء انتخاب دونالد ترامب عام 2016 ليسرّع هذه النزعات، إذ لم يكن ترامب يقدّر قيمة المعايير والمؤسسات الديموقراطية، وسرعان ما تقبّل الجمهوريون نزعته المتهورة أو تبنّوها بدل التحقق منها.
بعد خسارة ترامب في 2020، أصبح الحزب الجمهوري أكثر تطرفاً، فرفض انتقاد إصرار ترامب على إنكار نتائج الانتخابات مباشرةً، أو استنكار حركة التمرد العنيفة ضد الكونغرس لمنع انتقال السلطة بطريقة قانونية. حتى أنه تصدى للقادة المستعدين لدعم المؤسسات الديموقراطية داخل الحزب ورفض المسار الجمهوري الذي يزداد عدائية تجاه الديموقراطية، منهم النائبة ليز تشيني من وايومنغ والسيناتور ميت رومني من يوتا.
فقد كشفت الانتخابات النصفية أن هذه النزعة مستمرة، حيث رشّح الحزب نحو 300 شخص من رافضي نتائج الانتخابات في 48 ولاية من أصل 50، خسر عدد من أكثر المرشحين تطرفاً، لكن شخصيات متطرفة ومقتنعة بنظريات المؤامرة أصبحت جزءاً راسخاً من الحزب اليوم، أبرزها مارجوري تايلور غرين ومات غايتز.
في السنوات القليلة الماضية، أصبحت توقعات عدد كبير من المراقبين تشاؤمية بشأن مستقبل الديموقراطية. نظراً إلى انتشار الاستبداد في أجزاء واسعة من العالم، بدأ هؤلاء ينظرون إلى التطورات المعاصرة من منظور سلبي وموحّد، لكن لم يعد العالم إلى عصر الفاشية ولا تبرز تهديدات وشيكة على الديموقراطية في أوروبا الغربية، بل اضطر اليمينيون الشعبويون هناك لتخفيف تطرفهم. يعكس اعتدال المواقف في إيطاليا تحديداً قوة الديموقراطية في ذلك البلد الذي لم يتصالح بالكامل مع ماضيه الفاشي ويتخبط وسط الاضطرابات السياسية والركود الاقتصادي منذ عقود، وهو يثبت أيضاً قدرة الديموقراطيات السليمة على مقاومة القوى المدمّرة.
إذا لم يفهم المعلّقون والمحللون هذا المسار، فسيجازفون بترسيخ مكانة الحركات التي يخشونها، أولاً، قد تنشر النقاشات القلقة من اليمين الشعبوي المتطرف المزيد من المخاوف والانقسامات. عند اعتبار أي طرف «فاشياً»، لا مفر من نشر الذعر في المعسكر الذي لا يدعم ذلك الطرف وتأجيج مشاعر البغض في المعسكر الذي يدعمه، حتى أن هذا التوصيف قد لا يؤثر على حجم الأصوات التي يحصدها الحزب. ثانياً، يتفاقم سوء التفاهم حول حقيقة ما يصيب الديموقراطية اليوم عند اعتبار أي حزب «غير ديموقراطي». رغم التشاؤم الطاغي، لا تزال الديموقراطيات الغربية الغنية والراسخة قوية ومزدهرة. من اللافت ألا تقود الولايات المتحدة هذه النزعة العامة بل تقف على هامشها، فهي من البلدان القليلة التي أصبحت فيها الديموقراطية مهددة في هذه الفئة من الدول.
قد تكون الجهود التي تبذلها مارين لوبان في فرنسا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا، وجيمي أكيسون في السويد، وعدد آخر من الشعبويين اليمينيين، لزيادة شعبية أحزابهم مجرّد تكتيك، وقد يحمل هؤلاء مشاعر متطرفة ومعادية للديموقراطية في أعماقهم، لكن حمل عدد كبير من الشيوعيين في حقبة ما بعد الحرب هذه المواصفات أيضاً، وبما أن الشيوعيين اعترفوا بأن المواقف المتطرفة والمعادية للديموقراطية تحدّ من عدد الأصوات التي يحصدونها وتمنعهم من الوصول إلى السلطة، قرر هؤلاء أن يوقفوا الدفاع عن تلك المواقف تدريجاً، ومع مرور الوقت، أصبحت هذه المقاربة جزءاً من دعوات الأحزاب وسياساتها، فظهر جيل جديد من القادة الشيوعيين ومناصري قواعد السياسات الديموقراطية. يُفترض أن يفضّل كل من يهتم بتقوية الديموقراطية اليوم دفع الشعبويين اليمينيين في الاتجاه نفسه. لكن لن تكون هذه العملية ممكنة عبر الازدراء باعتدالهم بل يجب أن تتم مكافأتهم.
يجب ألا يستخف أحد بالتهديدات المطروحة على الديموقراطية الأميركية تحديداً، ومع أن المسؤولين في المحاكم وأجهزة أخرى نجحوا في إعاقة محاولات الإطاحة بنتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، لكن لفهم طبيعة التهديدات التي تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية بالشكل المناسب، يجب ألا نحاول استكشاف مشاعر قادتها بقدر ما نُركّز على الحوافز والقيود التي تواجهها تلك الأحزاب، فإذا كانت الديموقراطية فاعلة وسريعة التجاوب، فلن تجد الدعوات المتطرفة الصريحة أو المعادية للديموقراطية بيئة حاضنة لها، وستتمكن الحكومات ولاعبون سياسيون آخرون من تقوية قواعد اللعبة الديموقراطية، وفي هذه الظروف سيصبح المتطرفون أمام خيارَين: التعرّض للتهميش أو تعديل مواقفهم.
* شيري بيرمان
أمام هذه النزعة الواضحة، يشعر المحللون بالخوف من أن «يُسرّع أعداء الديموقراطية الليبرالية هجومهم حول العالم»، كما ذكرت منظمة «فريدم هاوس» غير الربحية في أحدث استطلاع عالمي لها، ومثلما يعتبر الكثيرون ارتفاع عدد من ينكرون نتائج الانتخابات، ويؤيدون نظريات المؤامرة، ويستخفون بحركة التمرد في الحزب الجمهوري، دليلاً على تآكل المعايير الديموقراطية الراسخة، هم يعتبرون فوز حزبَي «إخوة إيطاليا» و«ديموقراطيو السويد» ذات الجذور اليمينية المتطرفة مؤشراً على عودة الفاشية وتلاشي الديموقراطية، بما في ذلك داخل أوروبا الغربية التي تعتبر الديموقراطية مسألة بدهية.
لكن تغفل هذه النظرة التشاؤمية عن تنوّع السياقات السياسية التي تحصل فيها هذه التطورات، فتتعدد الأسباب التي تدعو إلى القلق من الحركات اليمينية المتطرفة طبعاً، لا سيما تلك التي تنكر نتائج الانتخابات أو تحاول إضعاف المؤسسات الديموقراطية، لكن تبرز اختلافات واضحة بين ما حصل في بعض البلدان الأوروبية، حيث تتخذ الأحزاب اليمينية المتطرفة سابقاً منحىً معتدلاً مع مرور الوقت، والولايات المتحدة حيث يتبنى أحد الحزبَين الأساسيَين أفكاراً يمينية متطرفة ومعادية للديموقراطية، وبدل إثبات المخاطر التي تتعرض لها الديموقراطية الأوروبية إذاً، يدعونا تطور حزبَي «إخوة إيطاليا» و«ديموقراطيو السويد» إلى شكلٍ حذر من التفاؤل، وعلى غرار عدد كبير من الأحزاب اليمينية الأخرى في أوروبا الغربية، يحمل هذان الحزبان جذوراً متطرفة لكنهما أدركا أن كسب الأصوات والنفوذ السياسي يتطلب الابتعاد عن تلك الجذور، وتعديل دعواتهما وبرامجهما السياسية، والتعهد بالالتزام بالمعايير الديموقراطية.
يعكس تطور بعض الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية معلومة أساسية، ولو أنها غير منطقية للوهلة الأولى، حول العلاقة بين التطرف والديموقراطية: لا ترتبط قدرة الجماعات المتطرفة على تهديد الديموقراطية بهوية تلك الجماعات بقدر ما تتعلق بطبيعة الديموقراطيات التي تنشأ فيها، وحين تكون المعايير والمؤسسات الديموقراطية ضعيفة، قد لا يتشجع المتطرفون على تعديل مواقفهم لأنهم يستطيعون كسب المؤيدين أو النفوذ من دون الامتثال للقواعد السائدة، لكن إذا كانت المعايير والمؤسسات الديموقراطية قوية، يضطر المتطرفون لتعديل مواقفهم نظراً إلى قلة الدعم الذي تحظى به الدعوات المتطرفة أو المعادية للديموقراطية، وإلا ستتمكن مؤسسات أو أطراف سياسية أخرى من إبقائهم خارج السلطة في جميع الأحوال.
هذه الظروف تؤثر مباشرةً على طريقة التحكم بالتهديدات المطروحة على الديموقراطية في أي مكان، بما في ذلك الولايات المتحدة، وقد يصعب إصدار الأحكام على الأحداث السياسية المتلاحقة بكل تجرّد، لكن طرحت الحركات السياسية الراديكالية أو المتطرفة تحديات واضحة على الديموقراطية في الماضي أيضاً، ويمكن تقييم تلك الحالات لاستخلاص الدروس منها، ويكفي أن نراجع مصير الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية خلال الفترة الفاصلة بين الحربَين العالميتَين وبعد الحرب العالمية الثانية، وعلى مر تلك العقود، واجهت الأنظمة السياسية في البلدان الأوروبية تغيرات واسعة النطاق، فاقتربت من الديموقراطية أو ابتعدت عنها.
تتّضح أهمية تطور النزعة الشعبوية اليمينية في أوروبا الغربية عند مقارنتها بتطورات مشابهة في الولايات المتحدة، ففي أواخر التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، حين أدركت مجموعة كبيرة من الأحزاب الشعبوية اليمينية أنها مضطرة لتعديل خطاباتها وتصرفاتها لحصد أصوات الناخبين وكسب النفوذ، بدأ الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة يسير في اتجاه معاكس، فأصبح خطابه سلبياً ومثيراً للانقسامات أكثر من أي وقت مضى، واتخذت سياساته المعتدلة طابعاً محافِظاً، وباتت تصرفاته في الكونغرس ترتكز على عرقلة الفريق الآخر، فقد جاء انتخاب دونالد ترامب عام 2016 ليسرّع هذه النزعات، إذ لم يكن ترامب يقدّر قيمة المعايير والمؤسسات الديموقراطية، وسرعان ما تقبّل الجمهوريون نزعته المتهورة أو تبنّوها بدل التحقق منها.
بعد خسارة ترامب في 2020، أصبح الحزب الجمهوري أكثر تطرفاً، فرفض انتقاد إصرار ترامب على إنكار نتائج الانتخابات مباشرةً، أو استنكار حركة التمرد العنيفة ضد الكونغرس لمنع انتقال السلطة بطريقة قانونية. حتى أنه تصدى للقادة المستعدين لدعم المؤسسات الديموقراطية داخل الحزب ورفض المسار الجمهوري الذي يزداد عدائية تجاه الديموقراطية، منهم النائبة ليز تشيني من وايومنغ والسيناتور ميت رومني من يوتا.
فقد كشفت الانتخابات النصفية أن هذه النزعة مستمرة، حيث رشّح الحزب نحو 300 شخص من رافضي نتائج الانتخابات في 48 ولاية من أصل 50، خسر عدد من أكثر المرشحين تطرفاً، لكن شخصيات متطرفة ومقتنعة بنظريات المؤامرة أصبحت جزءاً راسخاً من الحزب اليوم، أبرزها مارجوري تايلور غرين ومات غايتز.
في السنوات القليلة الماضية، أصبحت توقعات عدد كبير من المراقبين تشاؤمية بشأن مستقبل الديموقراطية. نظراً إلى انتشار الاستبداد في أجزاء واسعة من العالم، بدأ هؤلاء ينظرون إلى التطورات المعاصرة من منظور سلبي وموحّد، لكن لم يعد العالم إلى عصر الفاشية ولا تبرز تهديدات وشيكة على الديموقراطية في أوروبا الغربية، بل اضطر اليمينيون الشعبويون هناك لتخفيف تطرفهم. يعكس اعتدال المواقف في إيطاليا تحديداً قوة الديموقراطية في ذلك البلد الذي لم يتصالح بالكامل مع ماضيه الفاشي ويتخبط وسط الاضطرابات السياسية والركود الاقتصادي منذ عقود، وهو يثبت أيضاً قدرة الديموقراطيات السليمة على مقاومة القوى المدمّرة.
إذا لم يفهم المعلّقون والمحللون هذا المسار، فسيجازفون بترسيخ مكانة الحركات التي يخشونها، أولاً، قد تنشر النقاشات القلقة من اليمين الشعبوي المتطرف المزيد من المخاوف والانقسامات. عند اعتبار أي طرف «فاشياً»، لا مفر من نشر الذعر في المعسكر الذي لا يدعم ذلك الطرف وتأجيج مشاعر البغض في المعسكر الذي يدعمه، حتى أن هذا التوصيف قد لا يؤثر على حجم الأصوات التي يحصدها الحزب. ثانياً، يتفاقم سوء التفاهم حول حقيقة ما يصيب الديموقراطية اليوم عند اعتبار أي حزب «غير ديموقراطي». رغم التشاؤم الطاغي، لا تزال الديموقراطيات الغربية الغنية والراسخة قوية ومزدهرة. من اللافت ألا تقود الولايات المتحدة هذه النزعة العامة بل تقف على هامشها، فهي من البلدان القليلة التي أصبحت فيها الديموقراطية مهددة في هذه الفئة من الدول.
قد تكون الجهود التي تبذلها مارين لوبان في فرنسا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا، وجيمي أكيسون في السويد، وعدد آخر من الشعبويين اليمينيين، لزيادة شعبية أحزابهم مجرّد تكتيك، وقد يحمل هؤلاء مشاعر متطرفة ومعادية للديموقراطية في أعماقهم، لكن حمل عدد كبير من الشيوعيين في حقبة ما بعد الحرب هذه المواصفات أيضاً، وبما أن الشيوعيين اعترفوا بأن المواقف المتطرفة والمعادية للديموقراطية تحدّ من عدد الأصوات التي يحصدونها وتمنعهم من الوصول إلى السلطة، قرر هؤلاء أن يوقفوا الدفاع عن تلك المواقف تدريجاً، ومع مرور الوقت، أصبحت هذه المقاربة جزءاً من دعوات الأحزاب وسياساتها، فظهر جيل جديد من القادة الشيوعيين ومناصري قواعد السياسات الديموقراطية. يُفترض أن يفضّل كل من يهتم بتقوية الديموقراطية اليوم دفع الشعبويين اليمينيين في الاتجاه نفسه. لكن لن تكون هذه العملية ممكنة عبر الازدراء باعتدالهم بل يجب أن تتم مكافأتهم.
يجب ألا يستخف أحد بالتهديدات المطروحة على الديموقراطية الأميركية تحديداً، ومع أن المسؤولين في المحاكم وأجهزة أخرى نجحوا في إعاقة محاولات الإطاحة بنتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، لكن لفهم طبيعة التهديدات التي تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية بالشكل المناسب، يجب ألا نحاول استكشاف مشاعر قادتها بقدر ما نُركّز على الحوافز والقيود التي تواجهها تلك الأحزاب، فإذا كانت الديموقراطية فاعلة وسريعة التجاوب، فلن تجد الدعوات المتطرفة الصريحة أو المعادية للديموقراطية بيئة حاضنة لها، وستتمكن الحكومات ولاعبون سياسيون آخرون من تقوية قواعد اللعبة الديموقراطية، وفي هذه الظروف سيصبح المتطرفون أمام خيارَين: التعرّض للتهميش أو تعديل مواقفهم.
* شيري بيرمان