أنا من جيل أدمن سماع محطة الـ(B.B.C) «هنا لندن»، التي لم تفارقني طوال رحلتي في عالم الصحافة والكتابة، وعندما تمنعني ظروف العمل من متابعتها أشعر بأن شيئاً ما قد فاتني، فضلاً عن نشرات الأخبار والبرامج الحوارية والوقوف على أحدث التقارير واستضافة أسماء لها ثقل في عوالم السياسة والاقتصاد والغناء والأدب، كانت هذه المحطة أقرب إلى نفسي لسببين: الأول: أنها لم تدع الحيادية والاستقلالية بالتوجه، ثانياً: أنها تعرض الرأي والرأي الآخر.
صحيح أنها في النهاية «صوت الإنكليز» في الديار العربية ولهذه الإمبراطورية تاريخ ممتد من الاستعمار، لكنها على الأقل لا تحجب الرأي المعارض إلى حد كبير، وبعد غيابها قسراً السنة الماضية (23 يناير 2023) كنت أحرص على متابعة «البديل» وهي إذاعة مونتي كارلو التي استقررت على سماعها بين وقت وآخر، حيث احتفلت بمرور خمسين عاماً على إنشائها وأحيت الذكرى بمناسبة يوم الإذاعة العالمي، فقد طورت هذه المحطة أداءها وبرامجها إنما بقي «الثوب الفرنسي» قابعاً داخلها من حيث التوجه، لأنها تعكس سياسة البلد الذي تنطلق منه والبلد الذي يمولها وهذا عمل مشروع ولا غبار عليه.
ما يعنينا أن فكرة «الحيادية الكاملة» في أي وسيلة إعلامية غير موجودة مهما كانت هذه الوسيلة تماماً كما هي إذاعة «صوت العرب» و«حي برلين» و«دولتشيه فيتا» وغيرها من الإذاعات والتلفزيونات الموجهة للعالم العربي والناطقين بلغته، والتي تبث من الخارج.
تلك المحطات ليست جمعيات خيرية ولا هي توزع مساعدات إنسانية للمحتاجين، لديها وظيفة وهدف، بخلاف تحقيق أوسع انتشار ومنافسة شرسة مع المحطات الأخرى، ونتفهم هذا الدور ونعي تماماً ما يتم تمريره بين السطور، وكيف يجري توجيه المذيعين وانتقاء المواضيع والأخبار ثم نعيد ونؤكد أن كل ذلك حق مشروع لمن يدفع ويصرف ويمول، إنما الإشكالية تكمن بالسماح للرأي الآخر وبمن يعارض سياستك، لك الحق أن تدافع عن مصالحك وتحميها، لكن ليس لك الحق أن تمنع الرأي المخالف، وهنا بيت القصيد.
ثمة محطات عربية وخليجية وصحافة ورقية وأخرى إلكترونية، تدّعي الحياد والاستقلالية، وهي أبعد ما تكون عن هذا النهج، ما نود أن نراه في منظومة الإعلام هذه أن يكون هناك قدر من المساحة للرأي الآخر، فعندما تعرض أي وسيلة إعلامية ما يمس مصالحها، فإن عليها أن تضع بالاعتبار أن هناك من يخالفها بالرأي، وفي اللحظة التي تحجر على هؤلاء اعلم أنك أبعد الناس عن الموضوعية والحيادية.
حتى اليوم ما زالت الـ(بي بي سي) تحتل موقعاً متقدماً كونها خرّجت أجيالاً من المذيعين والإعلاميين، لهم مكانتهم وتقديرهم وبقيت صورتها كمدرسة إعلامية لها شأن، وما إنشاء محطة «الجزيرة» ونجاحها إلا صورة واقعية عن كفاءة ومهارة ونهج أولئك الذين جاؤوا إليها من الـ(بي بي سي).
والذين راهنوا على اختفاء الإذاعة بعد ظهور التلفزيون سقطوا في الامتحان، كذلك من راهن على إزاحة صورة الأبيض والأسود عن الشاشة بعدما دخلت الألوان خاب ظنه، وهو ما لا ينطبق على المرئي والمسموع فقط، بل على الصحافة الورقية والمطبوعة وبما فيه الكتب، فلا أحد يلغي ما قبله، فقد يحقق انتشارا أوسع وقد تتغير الوسيلة بالتوصيل، إنما تبقى الإذاعة والتلفزيون والصحافة المطبوعة حية طالما كان اختيار المحتوى والحرص عليه قائماً.