إنه سلاح حرب علني منذ الحربين العالميتين وما قبلهما وما بعدهما، فليس بجديد أن يستخدم الجوع والعطش كأسلحة، بل إن كثيراً من الحروب هي على الماء والغذاء ومصادر الطاقة، فمن لم يمت بالقذيفة أو رصاصة قناص سيموت حتماً نتيجة حصار لا يسمح بدخول رغيف خبز ولا قطرة ماء حتى يتحول المدنيون إلى أشباح يسيرون هائمين باحثين عن بقايا طعام.

إنها الحرب لا ترحم، وهي الحرب أيضاً التي يدفع المدنيون فيها أكبر الأوجاع، فمن منهم يقول إنه بيتي ولن أتركه أو هي أرضي ووطني ولا مكان لي غيرها، يحولونه إلى فريسة يصطادونها إما بالتدمير المباشر أو بألاعيبهم المعتادة عبر التهديد بالقصف والمطالبة بالرحيل الى ما يسمونه «أماكن آمنة» وهل هناك أمان مع المتعطشين للدم مع أطفال الموت الذين تنبض كتبهم المدرسية بالكراهية وثقافة الموت ويرضعون احتقار أبناء الأرض حتى استسهال قتلهم مع ابتسامة عريضة!!!

Ad

في مخططات الحروب تكون الخطوة الأولى أن يتفقوا على القتل ثم القتل ثم القتل حتى يعتاده البشر في كل مكان، ثم يبررون ذلك بالخوف من الآخر، ثم يكثرون من الخطابات والاستنكار ولوم الضحية على أنه هو سبب قتل نفسه!!! نعم وكأن الفلسطيني والغزاوي هو من يتسبب في موت عياله وهدم بيته، ثم الخطوة بعدها هي الاستنكار وخطابات الشفقة البليدة والتبرير بأنهم لا يريدون موتهم لكنهم لا يعرفون سوى الموت، ألم يتهموا الفلسطينيين واللبنانيين وكل المقاومين بأنهم يتعلمون ثقافة الموت وهو الأمر الذي لا يتورع كثير من العرب من تكراره ولا هم يستحون؟!!

والخطوة التي تليها تبريرات لا تنطلي إلا على السذج والجهلة أو من لا يزال برغبة أو من دونها، يحاول تصديق الخطاب المعلن، هنا يبدأ مسلسل سلال الإغاثة، كيس طحين وعلبة من التونة وكيس من المعكرونة وزجاجة زيت وكثير من الذل والإهانات، هو المشهد ذاته حين يستمر التجويع ثم التجويع حتى يتحول المحاصرون من الأبرياء إلى جياع يبحثون عما يقيهم من الموت جوعاً أو ما يسكت صراخ أطفالهم أو آهات شيوخهم أو دمعة حزينة محبوسة في عيون نسائهم، فيجرون ويتسابقون لنيل صندوق صغير أو كيس معبأ بكثير من اللا مبالاة إن لم يكن الكراهية.

في أحد تلك الحصارات والمجاعات المتنقلة كان الجمع يقف مصطفاً بعد إشاعات من هنا وهناك بأن إسقاطاً سيتم بعد طول انتظار وعناء وتبرير لأخذ موافقة هنا أو تصريح هناك، تسبق كاميراتهم سلال غذائهم المذلة والمصنعة حتى يلتقطوا اللحظة لتبث على مشارق الأرض ومغاربها وليرى كل الكون كيف أن هناك من «يحاول جاهداً» أن ينقذ الأطفال والنساء والمدنيين من مجاعة خلقها بعضهم أو ساهم فيها،

فأميركا التي تصوت ضد قرار وقف إطلاق النار في غزة تتحول إلى حمل وداعية سلام وإنسانية فتنشر الأخبار قبل الأفعال «المعونات قادمة» وكأنها تقول سنسهل موتكم فمن لم يمت بالصاروخ ورصاصة القناص سيموت بالقصف وهو يجري خلف سراب الصناديق المتساقطة مرة تحت أنظار طائراتهم العسكرية و«المتطورة جداً» ومرات في البحر، والصيادون رغم كل ذلك يجهدون ليتلقطوا بعضها أو ما يمكن إنقاذه منها، ويعيدوه ليطعم فماً جائعاً بل أفواها من الجياع والعطشى. يصرخ ذاك الطفل الذي يعلمنا العزة وحب الأرض «بدي شوكولاته» تنزل دمعة ساخنة على خد أمه المنقوش بجروحهم «طيب نوتلا يا ماما» ما في؟ يصعب السؤال ويصبح الجواب أكثر صعوبة.

تنتهي المسرحية سريعاً تتوقف الكاميرات أو ترحل لتقنص صورة أخرى مطلوبة منها، ويبقون هم تحت حصار الموت المتنقل والمتلون يمسكون بعلف الحيوانات ليحولوه إلى وجبة لا تأتي إلا بالمرض أو حتى الموت، ومع ذلك يردد بعض السذج هو الكيان الدموي «ماذا يستطعيون فعله» وهو أقوى منهم؟ مصدقين أن أميركا تحاول إقناع نتنياهو بالتخفيف من الموت أو التقليل من الجثث المرصوصة في قبور جماعية أو أن فرنسا التي قتلت أكثر من مليون ونصف جزائري لمجرد أنهم فكروا أن يحرروا بلدهم من قبضة استعمارها، مصدقين أن الاستعمارات كلها تقف مع الشعوب.

كم هي مسرحية سمجة من مخرجين وكتاب سيناريو هوليووديين تصوروا أنهم بالفعل يصنعون سينما حقيقية في حين هم يرسمون صورا كارتونية لكل البشر، وهم يشوهون شعوب كما فعلوا مع سكان أميركا الأصليين وغيرهم، إنها الكذبة الأميركية رغم أننا لا نزال في أوائل شهر آذار (مارس) ولم نبلغ نيسان (أبريل) بعد.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.