كنا في القاهرة مع الكثيرين مشاركين في «المنتدى الثالث لثقافة السلام العادل والسلام من أجل التنمية» الذي أقامه جهد مشترك بين «وزارة الثقافة المصرية» و«مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية» من 20 إلى 22 فبراير 2024.
ولما كان الفاصل الزمني بين انعقاد المنتدى ورحيل «العم بوسعود» المرحوم عبدالعزيز البابطين يلقي بظلال من الحزن والانقباض على المنتدى، حرص فيه معدّوه وأعلنوا، رغم صعوبة ذلك، حرصهم على عدم تحويل اللقاء قدر المستطاع إلى حفل تأبين للشاعر والمحسن الكبير، وكم كانت المشاعر تصل إلى حافة الانفلات وتتجاوزه رغم الحرص والتحذير، وكان السبب في هذا الحرص أن شخصية بمكانة عبدالعزيز البابطين والمؤسسة التي أقامها وطارت شهرتها وعم عطاؤها لا يمكن أن تختض أو تتداعى أو يخبو نورها لعقود قادمة، وبخاصة إن تولى أمرها الأبناء والمهتمون بالجدية ذاتها والحماس نفسه.
ولا أريد في هذا المقال أن أتحدث عن عطاء المؤسسة أو الأهمية الكبيرة لجهودها، ولا أن أبحث في عناء جامعي الشعر وواضعي المعاجم والموسوعات في تاريخنا الأدبي، كما لا أريد أن ألخِّص في مقال عابر دور مؤسسة البابطين الثقافية الرائدة، وما قدمته للشعر والأدب وقضايا السلام والاعتدال والانفتاح الحضاري من خدمات، فهذه ميادين يحتاج كل منها إلى محاضرات وندوات واحتفالات تتولاها المؤسسة أو مؤسسات أخرى حتماً في القادم من الأيام، وما أردته في هذه الأسطر أن أعبر كما فعل كثيرون عن مشاعر التقدير والإشادة بهذه المؤسسة الثقافية الكبيرة وصاحبها الجليل.
عاش عبد العزيز البابطين بين عالمين وتجاذبين، فهو من جانب شاعر يعيش في مجال التعامل مع الكلمة والصورة الشعرية وتراث أدبي واسع ممتد عبر قرون طويلة من تاريخ الثقافة العربية، وهو من ناحية أخرى، داعم متميز لهذه الثقافة الشعرية ومنفق على انتشارها ورسوخها وبسط سلطان لغتها العربية وتجميع مصادرها ومراجعها كما لم يفعل ذلك سوى قلة قليلة من المهتمين بالثقافة، بل ربما لم يفعل ذلك أحد بمثل هذا الشمول والسخاء، وكرم العطاء.
لم يسبق في اعتقادي لأي فرع من فروع الثقافة العربية أن نال اهتماماً وإنفاقاً بهذا المستوى والمقدار، ولم يتأتّ ذلك للشعر والنظم العربي على وجه الخصوص منذ أن حدد الخليل بن أحمد وكبار المؤسسين موازين القصيد وبحوره، إذ تقول الموسوعة العربية الميسرة إن الخليل بن أحمد «كان عارفاً بالموسيقى، فاستنبط علم العروض وحصره في خمس دوائر، استخرج منها خمسة عشر بحراً، زاد عليها الأخفش واحداً»، وهكذا تراكم الشعر وتنوعت القصائد العربية حتى عصرنا هذا دون أن ترى مؤسسة ثقافية النور بمستوى «مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي» وإن عرفت المكتبة العربية معاجم الشعراء الثرية ومنها موسوعات «ياقوت الحموي» (1178– 1228) وبخاصة «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» الذي تقول الموسوعة نفسها إنه «جمع فيه أخبار الأدباء إلى أيامه ورتبهم حسب حروف المعجم، وأشار إلى من اشتغل منهم بالكتابة أو الوراقة أو النسخ أو الخط أو الشعر، حيث يعتبر الكتاب موسوعة ضخمة للأدباء».
لقد جندت مؤسسة البابطين كل الإمكانات المالية والمادية والتقنية والأدبية، بسخاء عز له نظير، في تجميع مادة الموسوعة، بل قل الموسوعات، التي لم تترك أي شاعر ذي وزن، مهما كان حظه من الشهرة، دون أن تشير إليه وتوفيه حقه من الذكر وتورد نماذج من شعره، وبهذا نقلت موسوعة البابطين توثيق الشعر العربي إلى مستويات غير مسبوقة، وسهلت على الشعراء والأدباء والباحثين عناء البحث وجمع المعلومات وإجراء الدراسات والمقارنات.
لم يكن اهتمام عبدالعزيز البابطين بالثقافة الشعرية هواية عابرة أو مجرد تلبية لشعور بالواجب فحسب، بل كان تجاوباً مع إحساس عميق بقيمة هذه الثقافة وأهميتها، ومن أجل هذا سعى دوماً إلى جمع كل القصائد وترجمة حياة كل الشعراء ومطاردة كل بيت شعر والبحث عن كل ديوان دون التفات إلى تكلفة هذا المسعى وما يترتب عليه من جهد وعناء وتكلفة، وقد قلت لنفسي وللشاعر الراحل نفسه مراراً بين المزح والجد «كم أتمنى يا بوسعود أن يَنال النثر العربي ما نال نظمه وشعره من احتفاء وتوثيق!».
جلست أياماً في مكتبات حولي والسالمية العامة أقرأ مختارات شعرية من معجم ياقوت الحموي للأدب والشعر، وأحسب «معجم الأدباء» للحموي موجوداً في كل مكتبات الدول العربية، لكنه رغم هذا لا ينافس في قليل أو كثير معاجم البابطين العديدة في الشعراء التي تصدر في عصر جديد، بعد نصف قرن وأكثر من انقسام الشعر العربي نفسه بين شعر تقليدي وشعر جديد وشعر مقفى موزون وشعر حر، بل جعل الجدل حول ماهية الشعر ذاته والفواصل بين النثر والنظم تتداخل وتتماهى حتى صار تحديد انتماء بعض النصوص للنثر أو الشعر بداية معركة أدبية، ولهذا، فإن مجهودات مؤسسة البابطين ستؤدي حتماً دوراً مؤثراً في حسم اختلافات الأدباء حول بداية الشعر الحديث مثلاً وجوانب أخرى من تطور الشعر وعقد مقارنات مطولة بين شعراء مختلف الأقطار وشتى المواضيع.
لقد كان عبدالعزيز البابطين شخصاً كريماً نادر المثال، وكان من الممكن أن ينال التقدير والإشادة نفسها حتى لو بذل نصف ما بذل من جهد ومال في مختلف المجالات التي اهتم بها، فقد جمع بين إعداد المعاجم الشعرية والمساهمة في نشر تعليم اللغة العربية في مختلف البقاع وإقامة المواسم الأدبية والندوات، بل حتى مشاركة الشعوب الأخرى احتفالاتها الأدبية.
من ينسى مثلاً مشاركة مؤسسة البابطين وإصداراتها بمناسبة احتفالات إيران بألفية الشاعر حافظ عام 2005؟ أو المناسبات الأخرى في بريطانيا وإسبانيا ومصر وأماكن لا تحصى؟ بل إنني أشارك الروائي المصري الأستاذ «شريف صالح» رأيه في مقال نشره في مجلة «البيان» لرابطة الأدباء الكويتية بعنوان «غاب الفارس وبقيت الكلمة» قال فيه: «، لربما نظلم البابطين إذا حصرناه في صفة الشاعر، أو كونه صاحب مؤسسة ثقافية عريقة، لأنه أيضاً كان إنساناً خيّراً لم يتردد في إنشاء أكبر مستشفى للحروق في الكويت والشرق الأوسط، حملت اسم والده، أو إنشاء صالات للأعراس في المملكة العربية السعودية، أو بناء مدارس ثانوية في مصر وتونس والمغرب وغيرها، أو ابتعاث طلاب فقراء للدراسة في جامعات أوروبا وأميركا، عبر مِنَح دراسية».
سينتظر الأدب العربي والعمل الثقافي المنظم طويلاً قبل أن نرى من يعطي الشعر العربي واللغة العربية والثقافة العربية ما أعطاها الراحل عبدالعزيز سعود البابطين.