لا يوجد حديث هذه الأيام أكثر صخباً مما تتداوله أسواق المال العالمية عن الذكاء الاصطناعي بالتوازي مع الارتفاع القياسي للقيمة السوقية لشركة الرقائق العملاقة في وادي السيليكون (إنفيديا) خلال أقل من عام من 500 مليار دولار لتتجاوز تريليونَي دولار، كثالث أضخم قيمة سوقية في العالم، متفوقةً على «أمازون» وعملاق النفط السعودي «أرامكو»، لتصبح ثالث أكبر شركة من حيث القيمة السوقية بعد «مايكروسوفت» و»أبل»، حسب إقفال «وول ستريت» الأسبوع الماضي.
تضاعف القيمة
ولم يكن تضاعُف القيمة السوقية لـ «إنفيديا» مسألة عرضية أو مضاربية، بل نتيجة ارتفاع قياسي في الأرباح بلغت 12.3 مليار دولار في الربع الأخير بنمو 769 بالمئة على أساس سنوي، بفضل الطلب الهائل على رقائقها لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي وتضاعف إيراداتها من وحدة الحوسبة لمراكز البيانات بأكثر من 4 أضعاف ارتفاع الطلب على رقائق الذكاء الاصطناعي، مع العلم بأن سهم «إنفيديا» حقق منذ بداية العام الحالي مكاسب ناهزت 66 بالمئة، ليتجاوز 822 دولاراً للسهم.
وسجّلت «إنفيديا» إيرادات قياسية بلغت 22.1 مليار دولار في الربع الذي انتهى في أواخر يناير الماضي، وإيرادات قياسية بلغت 60.9 ملياراً للسنة المالية.
عقل ورهان
ودون التوسع في الحديث عمّا يتداوله العالم هذه الأيام بشأن الحوسبة المتسارعة ورقائق الذكاء التوليدي، وتصنيع وحدات معالجة الرسومات، وإطلاق برامج «ChatGPT»، فإن الرهان العالمي على الذكاء الاصطناعي كتقنية علمية من شأنها أن تغيّر وجه البشرية في المستقبل ربما القريب جدا، يبدو منطقياً الى حد كبير.
ومهما كانت الرهانات حول الذكاء الاصطناعي عالية أو مبالغاً فيها، لدرجة أنها تراهن على تقليص دور العقل البشري لمصلحة البرامج والأنظمة والتطبيقات في مجالات التعليم والعمل والخدمات، وغيرها، فإن ما يحكيه التاريخ القريب من تحوّلات في مختلف المجالات يشير الى أن لعب الذكاء الاصطناعي دوراً محوريا في تقليص أو تغيير دور العقل البشري في المستقبل هو أمر يستحق النقاش.
قبل 30 عاماً
فمن كان يتصور قبل 30 سنة مثلا أن الهاتف الجوال سيتحول الى جهاز متكامل صغير الحجم يجمع ما بين بيانات الاقتصاد والإحصاء المعقّدة وأخبار السياسة والحروب والفن والإنترنت وألعاب الترفيه والتواصل الاجتماعي بتكلفة مالية زهيدة؟ أو أن تتفوق القيم السوقية لشركات تقدم خدمات البيانات الافتراضية كـ «غوغل» و»مايكروسوفت» و»أبل» على شركات نفطية عملاقة مثل «أكسون موبيل» و»شيفرون»، بل إن خدمات وتطبيقات عديدة حلّت محل شركات وكيانات كانت هي أصل التعامل والتبادل بين الناس، فصارت التجارة الإلكترونية هي البديل الأوسع انتشارا على حساب التجارة التقليدية، لا سيما في قطاعات التجزئة، وزاحم النتفلكس صالات السينما، ووفّرت منصة zoom البديل عن قاعات الاجتماعات التقليدية وتكاليف السفر والإقامة المرتبطين بها، ولم يعد مفهوم الأرشيف مرتبطا بطوابق من الملفات والأوراق المهترئة والقديمة، إنما مجرد تطبيق الـ «iCloud» يحمل ملايين المعلومات والمستندات، وزاحمت السيارات الكهربائية نظيرتها المعتمدة على الوقود التقليدي، فيما بات للسياسات البيئية والمناخية وزن غير معهود تاريخياً في تكوّن القرار الاقتصادي بالعديد من الدول... والأمثلة تجاه ما تغيّر بحياتنا خلال جيل واحد تكاد لا تنتهي.
محاذير وقيود
وبالتالي، فإن فرضية أن يمثّل الذكاء الاصطناعي تحوّلاً جذرياً في حياة الناس أمر لا يمكن استبعاده حتى مع المحاذير ذات العلاقة مع إعلان الإدارة الأميركية أنها تنوي تشديد القيود على صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى الصين بعد إطلاق شركة هواوي الصينية هاتفاً جديداً مزوداً بشريحة ذكاء اصطناعي متقدمة محلية الصنع، أو توجّه الاتحاد الأوروبي لوضع قواعد صارمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، لا سيما تطبيق ChatGPT في مجالات الأمن القومي والدفاع والحريات الشخصية وأعمال الشركات والتجارة، من خلال تقسيم استخدامات الذكاء الاصطناعي إلى مستويات مختلفة للمخاطر، والعمل على وضع مسودة أخلاقيات وقوانين تتيح عدم انفلات استخدام هذا الذكاء في أغراض خارجة عن السيطرة.
الذكاء الكويتي
وثمّة الكثير مما يقال عن التعقيدات التقنية والفنية للذكاء الاصطناعي وآثارها الاقتصادية والتجارية والعمالية والعلمية، بل وحتى مستقبل البشرية، غير أن ما يهمنا في الكويت أمر آخر، هو استخدام الذكاء الاصطناعي في أعمال إخفاق الإدارة وتخبّطات التخطيط المستقبلية، فقد أعلنت الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، نهاية العام الماضي، إعدادها ما يسمّى بالخطة الإنمائية الرابعة 2025 - 2030، التي تركّز على «بناء الاقتصاد المعرفي وتعزيزه لارتباطه بالذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة وتحوّلاتها في العالم».
عناوين وفشل
فالكويت لم تنجح منذ إطلاق خططها التنموية بنسخها الثلاث السابقة عام 2009 في أي خطة مهما كان حجمها، بل إن الفشل في هذه الخطط كان بإعلانات رسمية من مسؤولين حكوميين تطلق تصريحاً علنياً بأن الخطة فشلت أو تلميحاً بتغيير المستهدفات وتقليصها دون تحقيق النتائج المتعلقة، سواء كانت مرتبطة بالإصلاحات الاقتصادية والمالية وتنفيذ المشروعات الكبرى أو الأقل أهمية وقيمة وأسهل تنفيذاً، كالتحول الرقمي، وبالتالي فإن الحديث عن ثورة الذكاء الاصطناعي في دولة مرّت بمراحل عديدة من الفشل الإداري والمالي والاقتصادي والنكوص عن الخطط المعتمدة والانحراف في تحقيق الأهداف المحددة، لا يمكنها معه أن تراهن على الذكاء الاصطناعي إلا لتعزيز خيباتها المتتالية، أما الحديث عمّا يعرف بالاقتصاد المعرفي والثورة الصناعية الرابعة، فإن أفضل ما يمكن عمله حاليا هو عدم المبالغة بالتوسع في الأمنيات الصعبة التحقيق، والتركيز على معالجة اختلالات الاقتصاد المزمنة كضبط المالية العامة وإصلاحها و.. سوق العمل... وإلخ.
لذلك، فإن إطلاق الخطط العامة والعناوين العريضة من دون وجود أبسط مقوماتها ولا نماذج نجاح لسابقاتها ولا آليات قياس لمشاريعها ولا سياسات تقوّم انحرافاتها هو استسهال يتطلب تدخلاً من الإدارة العامة بشقّيها التنفيذي ثم التشريعي، فالعالم يتغيّر بشكل غير معهود، ولا يليق بدولة تتصاعد فيها تحديات الاستدامة أن تطلق خططاً غير واقعية فقط، لأنها تريد أن تحاكي المصطلحات الرائجة عالمياً.