تعرفت عليه عن قرب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ اللحظات الأولى اكتشفنا مدى تقاربنا التلقائي الذي نما وازداد وترسخ مع مرور السنين.
كان فذاً متميزاً وجليساً لا يُملّ، وعلى الرغم من تبحره في الاقتصاد، فقد كان قليلاً ما يتطرق إليه أو يناقشه في جلساته مع الأصدقاء، حيث كان الأدب عموماً والشعر خاصة، والمتنبي على وجه التحديد، إلى جانب القصة، أحب إلى قلبه من السياسة والاقتصاد.
ينجذب السامع إلى حديثه السلس الممتع فيظن لوهلة أن ما يسمعه ليس سوى معلومات متداولة، وإذا بعمق المعرفة التاريخية وينبابيع القراءة الواعية يطغيان على الجلسة من دون تكلف أو تصنُّع، فلا يشعر المتلقي إطلاقاً بأن الحديث موجه إليه من أعلى، فقد كان شديد الاحترام لرأي الجلساء، يستمع بإنصات شديد حتى لمن يخالفه الرأي، حتى كان الحوار والجلسة يمضيان بسرعة فائقة، لينتهي بنا الأمر في كل مرة بأن نرتب لقاءً آخر.
عملت معه بشكل مكثف على قضايا وطنية ساخنة في حينها، وكان دقيقاً في مواعيده ووعوده، لكنني سرعان ما اكتشفت أن أبا فهد كان حاضراً في مواقع كثيرة من دون وجوده الشخصي بالضرورة، فقد شاركت في دورة نظمتها جامعة الدول العربية في الرباط عام 1985 تحت عنوان استخدام الحاسب الآلي في نظم المعلومات، وقد استمرت تلك الدورة شهراً كاملا، بمشاركة محاضرين وطلبة من أغلب الدول العربية... في تلك الدورة لم يمر عليَّ درس لم تكن «صخر» موضوعه أو أداته، ففي تلك الفترة لم تكن الكمبيوترات متوافرة على المستويات الشخصية والمؤسساتية، لكن صخر ومحمد الشارح كانا سابقين لعصرهما.
ورغم الظروف الصعبة التي مرت بها «صخر» ومعها حتما أبوفهد، أثناء الاحتلال وبعده، فإن شغفه إلى المزيد من التحديات لم يفتر، وأذكر في فترة أواخر التسعينيات أنه اشتغل كثيراً هو وصخر على تعريب برامج كانت في مهدها حتى في اللغة الإنكليزية، إلا أنه طوعها إلى العربية، بل تمكن من دمج الكثير منها للخروج بحلول فذة كبرنامج مخصص للمكفوفين، يسهل عليهم استخدام الكمبيوترات الشخصية في خطوات بسيطة جدا دون حاجة إلى مساعدة خارجية إلا في حدود ضيقة، حيث يقوم هذا البرنامج بالمسح الضوئي للمقالات والأخبار الصحافية المطبوعة ثم يحولها إلى نصوص ليقوم بتدقيقها لغويا ثم قراءتها للكفيف بالصوت.
قد يقول البعض إن هذا أمر أصبح متاحاً ويسيراً الآن، هذا صحيح بالطبع، لكنه في تلك الفترة كان قفزة نوعية في كل جزء من تلك التقنيات التي دمجت بشكل عبقري، وما كان لكل ذلك أن ينجح لولا ذلك الشغف الدائم النبض في قلب محمد الشارخ وإصراره ورؤيته السباقة.
لن أرصد كل الأعمال الرائعة التي قام بها الشارخ، فلن تسعفني المساحة، لكني سأذكر اتصالاً من الغالي أبي فهد، يبدأه كعادته في كل اتصالاته: «يا سعود فات من الشهر خمسة وعشرين»، نضحك معاً على تلك المقدمة، ثم يدخل سريعاً في لب الموضوع، ليقول لي: «شوف راح أرسل لك رابطين لمنتجين جدد من صخر». سعدت كثيراً لأني كنت أخشى أن تكون «صخر» قد ماتت أو ضعفت وأهملت المدقق اللغوي والمصحح النحوي الذي يقوم حتى بتشكيل الحروف... هكذا كان أبو فهد على الدوام، يغيب ليأتي بالجديد دوماً.
كان كثيراً ما يشعرك كأنه كان متفرغاً تماماً لنشاط وحيد، حتى تفاجأ بسرور بجديده على مستويات شتى، كالقصة والأدب والتقنية.
رحم الله محمد الشارخ وأحسن العزاء لرفيقة دربه أم فهد وأولاده وبناته والأحفاد.
أما أنا فسأفتقد أخاً عزيراً، وأفتقد أيضاً تلك المقدمة الجميلة لكل اتصال: يا سعود....