نعرف الكثير عن شعر «بدر شاكر السياب»، شاعر العراق المعروف الذي توفي في الكويت (1926- 1964) كأحد مبدعي القصيدة الحديثة، ولكن ماذا قرأنا عن فكره السياسي، كموقفه مثلاً من رؤساء الولايات المتحدة؟
أصدرت مؤسسة فرانكلين «الأميركية للنشر» عن «دار منشورات البصري» ببغداد كتاباً صغيراً في نحو 150 صفحة بسيط الإعداد، في آخره كالعادة قائمة بالأخطاء المطبعية التي بلغت نحو 50 خطأ!
كان الكتاب الصادر في العراق يحمل عنوان «توماس جفرسُن أبو الديموقراطية» من تأليف «فنسنت شیان» Sheean وترجمة «الزعيم الركن المتقاعد جاسم محمد»، مع مراجعة وتقديم «بدر شاكر السياب»، الشاعر العراقي الكبير.
كان «السياب» في هذه المرحلة قد ترك ربما «الحزب الشيوعي» العراقي، حيث يقول الناقد الأدبي «محسن جاسم الموسوي» في قاموس الأدب عن «السياب»، إن حضوره «مؤتمر روما» صيف عام 1961، «يعد بمنزلة الانتقالة الكبرى في موقفه السياسي الذي تجلى في مقالاته «عندما كنت شيوعياً»، وهي مقالات تبرر تباعده عن «الحزب الشيوعي» على أسس عامة أولاً، وأسس شخصية ثانياً، بسبب اختلافه الحاد مع منابر اليسار التي تساند «البياتي» (الشاعر العراقي المنافس له) وتضعه في صدارة الحركة الشعرية الحديثة». (قاموس الأدب العربي الحديث، د.أحمد السكّوت، القاهرة 2009، عبارة «الشاعر العراقي المنافس له ليست» واردة في القاموس).
أشاد السياب في هذه المقدمة بالرئيس «جفرسون» فقال: «قليلون هم رؤساء الدول وزعماؤها الذين تخطت شهرتهم حدود بلادهم، حدود زمانهم فأصبحوا ملكاً لكل الشعوب، في كل الأزمان، وتراثاً للإنسانية كلها، تعتز به وتتناقله من جيل إلى جيل.
ومن هذه القلة توماس جفرسن، الرئيس الأميركي الذي أصبح يسمى فيما بعد أبا الديموقراطية، وأصبح ملكاً للبشرية كلها تعتز به، وبطلاً من أبطال الحرية والديموقراطية في تاريخ الإنسان كله، منذ أقدم العصورإلى آخرها».
وأضاف السياب إننا لو أمعنا النظر في جلائل الأعمال والخدمات التي أداها هؤلاء الرجال إلى أوطانهم لوجدناها ذات بعدين: وطني، وإنساني: «فالبعد الوطني منها هو الذي يمكن أن تحده حدود من مكان أو زمان، وأما البعد الإنساني، فهو المتمرد على كل حد من مكان أو زمان، هو خيط في النسيج الذي تكون خيوطه تاريخ الإنسانية كلها». (ص7) وقال إن المهام التي قام بها الرئيس جفرسون لبلاده قبل توليه الرئاسة وبعدها، ومنها إنشاء العملة أي الدولار مثلاً، وإن كانت أعمالاً جليلة إلا أنها ليست ما يثير إعجابنا، «ولكن ما يثير إعجابنا، نحن العرب، وكذلك إعجاب الأمم الأخرى في «توماس جفرسن» أنه كان من أعداء الرق والإقطاع، وأنه هو الذي سطر وثيقة الاستقلال، التي أصبحت فيما بعد مما يكاد يحفظه أغلب طلبة المدارس في الولايات المتحدة عن ظهر قلب، والتي كانت بين الشرارات التي أوقدت مشعل الثورة الفرنسية».
وأشاد السياب بعبارة واردة في وثيقة الدستور قائلاً: «حسبه أنه كان أول من قال في تلك الوثيقة التاريخية العظيمة إن الحكومات تحصل على سلطاتها من رضا المحكومين»، وعلق الشاعر السياب قائلاً: «هذا هو المفتاح الذي تفتح به أبواب الديموقراطية على مصاريعها»
وأشاد «السياب» بوثيقة إعلان حقوق الإنسان التي سطر وثيقتها «توماس جفرسن» وقال «إن المبادئ التي جاءت في هذا المقطع من مقاطع وثيقة إعلان الاستقلال، ما زالت هي المبادئ الموجهة للأمم الديموقراطية حتى يومنا هذا.
ونوه الشاعر العراقي بهذه المواثيق وبخاصة البند القائل «إن الغاية من أي مجتمع سياسي إنما هي الاحتفاظ بحقوق الإنسان الطبيعية والمكتسبة بالقِدْمية». ومما له دلالة خاصة في التحول الفكري لدى السياب إشادته بالبند السابع في لائحة حقوق الإنسان التي نشرها المجتمع الوطني في باريس عام 1789 القائل «إن الملكية حق مقدس للفرد لا يجوز سلبه».
ويتحدث السياب في مقدمته عن موقف «جفرسن» من الرق، ومحاربة الاستعباد في النصوص القانونية وفي الواقع، «ولكن كبار الملاكين والإقطاعيين من أنصار الرق» عملوا كما يشير على حذف النص ثم نجحوا في حذفه مرة ثانية.
ويقول السياب أن «جفرسن» كان سابقاً لزمانه، «فبعد خمس وستين سنة، جاء إبراهام لنكولن فألغى الرق في الولايات المتحدة كلها، وحرر العبيد، وحين انتخب رئيساً للجمهورية ألغى المراسيم والألقاب وقواعد البروتوكول بالشكل الذي كانت تفهم به قبلا، وقد بلغ من ازدرائه بكل مظاهر الأبهة الفارغة والتقاليد السخيفة أنه ذهب الى حفلة تنصيبه رئيساً للجمهورية، بالملابس العادية وبدون حرس أو حاشية».
ويضيف السياب عن الحياة الشخصية لجفرسن: «ورغم هذه الجهود التي كان يبذلها لخدمة بلاده والخدمة الديموقراطية، فإنه لم ينقطع عن حبه للحياة الخاصة مع عائلته وفي مزرعته، وحين توفيت زوجه آثر ألا يتزوج بعدها، وظل أعزب حتى وافاه الأجل». ويضيف أن «توماس جفرسن، استطاع أن يضيف اسمه إلى «قائمة الأسماء المكتوبة بحروف من نور من تاريخ البشرية، ونال لنفسه الخلود والتعظيم، ليس في الولايات المتحدة وحسب، إنما في كل العالم الذي يؤمن بالديموقراطية».
هل يستطيع العرب الاستفادة من القيم التي دافع عنها الرئيس جفرسن وبشّر بها؟
يقول الشاعر السياب، وكلامه عام 1961: «وما أحرانا نحن العرب، ونحن نستفيق بعد نوم قرون طويلة، ونقف على أبواب الحياة، وأمام الطرق المتشابكة، محاولين أن نختار أصلحها، أن نطلع على حياة رجل هو من أقطاب الديموقراطية في كل زمان ومكان، إن العالم الذي جمع كل قواه ليجابه هتلر ونازيته، ثم ليسحقهما في النهاية، قد أثبت بالعمل، لا بمجرد القول، أنه لا يرتضي بالنهج الديموقراطي بديلا».
ويختتم المقدمة قائلاً: «وما أحرانا- نحن العرب- الذين عرفنا الديموقراطية منذ عصورنا الأولى فكان النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يجالس بلالاً الحبشي وصهيبا الرومي ويصاحبهما، وكان الخلفاء الراشدون من بعده، لا يترفعون عن مجالسة أصغر الناس قدراً ومحادثته، أن نعيد ذلك الماضي الزاهر، فنستضيء بنور الديموقراطية في سيرنا الطويل نحو حياة أفضل».
تفاءلوا بالخير... تجدوه!