ارتبط العلايلي دائمًا بالأعمال الفنية الجيدة، وكان حضوره على الشاشة أو خشبة المسرح، كافيًا لجذب الجمهور من عشّاق الفن الراقي، ورغم بطولته للعديد من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، كان يرفض لقب «النجم»، ويعتبره تفرقة بين زملاء مهنة واحدة، فقد كان يؤمن بأن هناك فنانين يؤدون أدوارًا صغيرة، لكن تأثيرها مهم للغاية في السياق الدرامي، لذا استحق لقب «عملاق السينما المصرية»، الذي خلعه عليه الجمهور.
وقد شارك هذا الممثل الاستثنائي في 10 أفلام ضمن قائمة أفضل 100 فيلم بتاريخ السينما المصرية، حسب استفتاء النقاد عام 1996، وهي «بين القصرين» (1964)، و»قنديل أم هاشم» (1968)، و»الأرض» (1970)، و»الاختيار» (1971)، و»زائر الفجر» و»على مَن نطلق الرصاص؟» (1975)، و»السقّا مات» (1977)، و»إسكندرية ليه؟» (1979)، و»أهل القمّة» (1981)، و»الطوق والإسورة» (1986). وسجَّل اسمه في الموسوعات التي أرّخت لأعظم الأفلام في تاريخ السينما، منذ عام 1896 وحتى 2002، وتضمّنت 4 أفلام عربية هي «الاختيار»، و»السقا مات»، و»باب الحديد» و»المومياء»، والأول والثاني من بطولته، وذلك ضمن قائمة طويلة لأفلام عالمية، منها «الأب الروحي» و«الطيب والشرس والقبيح» و«فورست جامب» و»جوكر».
كان الفنان الراحل يفتخر دومًا بانتمائه العربي، وخلال مسيرته الفنية، شارك في عدة أفلام عربية مميزة، منها «طاحونة السيد فابر» (1973) للمخرج الجزائري أحمد راشدي، و»سأكتب اسمك على الرمال» (1979) للمخرج المغربي عبدالله الصبّاحي، وفيلم «القادسية» (1981) للمخرج المصري صلاج أبوسيف، و»بيروت يا بيروت» (2020) للمخرج اللبناني مارون بغدادي.
الحياة المبكرة
وُلد عزت حسن العلايلي في 15 سبتمبر 1934 بدرب الملاح في حي «باب الشعرية»، أحد أحياء القاهرة العتيقة، لأسرة متوسطة، ولأنه الولد الوحيد بين خمس شقيقات (عصمت وعفت وعنايات وفاطمة ونجوان)، فقد كان الطفل المدّلل لدى والده المحاسب، وأمّه ربة المنزل.
وفي فترة لاحقة، انتقل العلايلي مع أسرته إلى مدينة الإسكندرية الساحلية وعمره 3 أعوام، لظروف عمل والده، وسكنوا بشارع الرصَّافة في حي محرم بك، وتزامن دخوله مدرسة الحي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، لكن مع تزايد الغارات وقصف القنابل، عادوا إلى القاهرة مجددًا.
واستقرت الأسرة في منطقة بركة الفيل بحي السيدة زينب الشعبي، وعلى مسافة قريبة من مسقط رأسه بحي باب الشعرية، وفي ذلك الوقت، اتخذت حياة الطفل المدلل مسارًا جديدًا، وتأثر كثيرًا بوالده المُحِب للفن والثقافة، والذي كان يمتلك مكتبة عامرة بشتى مجالات المعرفة، ومن خلالها تشكّل وعي الابن في سنّ مبكرة.
عاشق التمثيل
واعتاد العلايلي الذهاب مع والده لمشاهدة مسرحيات يوسف بك وهبي، ونجيب الريحاني، وانجذب إلى ذلك العالم الساحر، وعشق التمثيل منذ نعومة أظفاره، وكان يتحيّن فرصة خروج والديه، ويبني مسرحًا داخل الشقة من أخشاب السرير، ويسمح لأطفال الجيران بمشاهدة عروضه ومونولوجاته مقابل قرش واحد، والمفارقة أن والده أراده أن يكون محاسبًا مثله، رغم أنه دفعه في طريق الفن والثقافة.
ولكنّ الطفل الموهوب مارس نشاطه الفني في المدرسة الابتدائية، وتميَّز بقدرته على حفظ الأناشيد والأغاني، وكلّما اصطحبه والده إلى مسارح شارع عماد الدين، يقدّم أمام زملائه في اليوم التالي فقرة تقليد لنجيب الريحاني أو يوسف وهبي، إلى جانب تقليده المطربين وفناني المنولوج، أمثال محمد عبدالوهاب، وعبدالغني السيد، وكارم محمود، والمنولوجست محمود شكوكو، من دون أن يدري أنه سيصبح في المستقبل فنانًا مشهورًا.
وفي فترة المراهقة، تعرّف على لعبة البلياردو وكان يمارسها مع أصدقائه في كازينو السيدة بحي السيدة زينب، ويقضون هناك ساعات طويلة، وتوطدت صداقتهم بلاعب كرة القدم يَكن حسين، وكانوا يتباهون بذلك، ووقتها كان حسين أحد نجوم النادي الأهلي في الخمسينيات، ثم انتقل إلى نادي الزمالك.
تجربة السجن
وكان لدى العلايلي حِسّ وطني منذ صغره، وأراد التطوع لمساندة الفدائيين لمحاربة الإنكليز في مدينة الإسماعيلية (إحدى مدن قناة السويس) عام 1950، ووقتها أعلن أحد المحامين في حي السيدة زينب، وجود فرصة للتطوع.
وتحمّس الفتى (18 عامًا) وعدد من أصدقائه في المنطقة، وتوجهوا إلى الإسماعيلية بالسيارات، وكانوا في غاية السعادة، وفور وصولهم فوجئوا بوجود كمية كبيرة من السلاح والذخيرة موجودة داخل السيارات، وكان دورهم مقتصرًا على إمداد الفدائيين بالسلاح، وعادوا في اليوم نفسه إلى القاهرة.
ولكن بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر بمنطقة المنشية بالإسكندرية في عام 1964، ألقت الشرطة القبض على العلايلي وأودِع السجن لمدة 3 أشهر، بعدما تبيّن أن المحامي الذي سجّل العلايلي اسمه عنده ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، لكن جرى الإفراج عنه لاحقًا، واعتبر فترة السجن مهمة في حياته، حيث تعرّف على كبار المفكرين والمثقفين في ذلك الوقت.
وعن تلك التجربة، قال إنه لم يكره عبدالناصر بعد هذه الواقعة، لأنه كان يعي جيدًا أن عبدالناصر صاحب مشروع وطني، وكان طموحًا قريبًا من الشارع المصري، معتزًا بمصريته وعروبته، كما أنه أحدّث نقلةً كبيرة في تاريخ مصر، إذ يكفيه مجانية التعليم والمشروعات الضخمة، لهذا ظل يتحدث عنه بتقدير كزعيم وطني.
رحيل الأب
التحق العلايلي بالمعهد العالي للتمثيل العربي عام 1955، الذي أصبح لاحقًا المعهد العالي للفنون المسرحية، وتتلمّذ على يد عمالقة الإخراج والتأليف أمثال فتوح نشاطي، وعبدالرحيم الزرقاني، ولويس عوض، ومحمد مندور، ونبيل الألفي، وأدرك حينها أنه يسير في الطريق الصحيحة، لا سيما أن المسرح المصري كان في عصره الذهبي.
وقد حصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1960، لكنه لم يبدأ مسيرته التمثيلية فور تخرّجه، بسبب رعايته لوالدته وشقيقاته بعد وفاة والده، وطرق أبواب مبنى التلفزيون المصري (ماسبيرو)، وعمل لفترة مُعِدًا للبرامج التلفزيونية.
ولم تكن وفاة والده بالأمر الهيّن، لا سيما في مرحلة عمرية مبكرة، مما جعل الابن المدّلل مسؤولا عن أسرته التي تواجه ظروفًا صعبة، دفعته للخروج للعمل من أجل تدبير احتياجات الأسرة. وكانت لحظة الرحيل صعبة ولم ينسها العلايلي طوال حياته، فقد كان له شقيق توفي في صِغَره، وهو ما تذكره الأب في لحظاته الأخيرة، وقال له: «يا عزت، شيل أخوك من على كتفي».
حقّق العلايلي نجاحًا في الإعداد التلفزيوني، حيث أعد برنامج «رحلة اليوم»، وكان يجوب به ربوع مصر لتصوير أفلام قصيرة عن كل محافظة في يوم واحد، ولفت البرنامج انتباه الرئيس جمال عبدالناصر، وطالب بالمزيد من هذه النوعية التثقيفية من البرامج التي تعرِّف المصريين بتراث وتاريخ ورموز بلدهم.
رسالة من امرأة مجهولة
وجاءت أول فرصة حقيقية للتمثيل عام 1963، حين أسند إليه المخرج صلاح أبوسيف دور طبيب في فيلم «رسالة من امرأة مجهولة»، عن قصة للكاتب النمساوي استيفان زفايج، وسيناريو السيد بدير، وبطولة فريد الأطرش ولبنى عبدالعزيز وعبدالمنعم إبراهيم.
وفي عام 1964 جسّد شخصية الشاب الوطني في فيلم «بين القصرين»، قصة نجيب محفوظ وإخراج حسن الإمام، وبطولة يحيى شاهين، وآمال زايد، ومها صبري، وصلاح قابيل. وشارك في فيلم الجاسوس أمام فريد شوقي، وعادل أدهم، والممثلة الدنماركية آن سميرنر، وإخراج نيازي مصطفى.
وإلى جانب التمثيل كانت لدى العلايلي هوايات أخرى، كالغناء والعزف على آلة العود، ومارس التأليف أيضًا، فكتب حلقات درامية تلفزيونية بعنوان «اعرف عدوك»، ومسرحية «ثورة القرية»، عن قصة للكاتب الصحافي محمد التابعي، وصقلت هذه الاهتمامات موهبته كممثل متفرّد، إلى جانب دراسته الأكاديمية.
التربية الدينية تحكّمت في سلوكه
اعتبر العلايلي أن القرآن الكريم أهم ميراث تلقاه من أبويه، فقد حفظ أجزاءً كثيرة منه على يد والده، وكانت أمه تراجع معه ما حفظه، فقد نشأ على القرآن في البيت، رغم عدم ذهابه إلى الكُتَّاب الذي كان منتشرًا وقتذاك، وتلقى أغلب جيله تعليمه الديني من خلاله، لكنه لم يحظَ بهذه الفرصة، وعوّض والده هذا الفارق عندما كان يواظب على تحفيظه بعض آيات القرآن حتى قبل أن يلتحق بالمدرسة.وفي مقابلة معه، قال العلايلي: «حفظي للقرآن كان بمنزلة الرقيب لي في تصرفاتي وعلاقتي مع زملائي، فأبي لم يحفّظني القرآن فقط، بل كان يُفسِّر لي ما أحفظه، ويعلمني القيم القرآنية، فكان يحذّرني من الكذب أو إيذاء الآخرين، وبمرور الأيام وجدتُ نفسي مرتبطًا بالقرآن ومواظبًا على قراءته ومراجعة ما حفظت».
وظل تأثير النشأة الدينية معه حتى رحيله، فقد حج إلى بيت الله الحرام أكثر من مرة، لا سيما في فترة التسعينيات، وفي المرة الأولي حرص على لمس الكعبة والتعلق بأستارها، ووصف ذلك بقوله: «ما زلت أذكر مشاعري وقتها، لقد شعرت أن شراييني ترقص، وأذكر أيضًا أن كل ما دعوت به لنفسي وزوجتي وأولادي قد تحقّق، وفي المرة الثانية عشت نفس التجربة بكل مشاعرها، وتمنيت لو أنني أستطيع أداءها كل عام».
أجمل ذكريات الطفولة في رمضان
تداعت ذكريات الفنان الراحل عزت العلايلي عن طفولته، لا سيما سحر أيام وليالي شهر رمضان الكريم في حي السيدة زينب، حين استقر مع الأسرة في القاهرة، وعمره 12 عامًا، وظلت تداعب خياله الأجواء الرمضانية في الأحياء الشعبية، وطابعها الخاص من خلال الأنوار والزينات المعلّقة على المآذن، وميكروفونات المساجد، والخروج مع أقرانه إلى الشوارع للعب بالفوانيس، والسير خلف المسحراتي في الشوارع المظلمة، فلم تكن هناك كهرباء في ذلك الوقت.وفي صباه، في الدورات الرمضانية لكرة القدم، وكانت تقام فى الساحة الخاصة بالمحكمة الشرعية بمنطقة الحلمية بالقاهرة، خاض بطولات حضرها عددٌ كبير من الجمهور، وحصل على جوائز ومكافآت.
وتذكّر العلايلي أن منزلهم كان متوسط الحال، والعادات والتقاليد التي كانت تحدث داخل المنزل هي نفسها التي كانت موجودة في أي بيت مصري، كما أن الصلاة في المسجد طول شهر رمضان كانت أمرًا مهمًا للغاية، فالمسجد كان مواجهًا لبيتهم، ويتسابق مع أقرانه للصلاة فيه منذ صغره.
وقد ظل يتجمّع مع إخوته على مائدة واحدة في إفطار أول يوم رمضان، وكان ذلك بالنسبة إليه تقليدًا مهمًا لا يمكن تجاهله، وشقيقته الكبرى هي التي تتولى الدعوة والتنظيم، وبدوره حرص على استقبالهم داخل منزله في ذلك اليوم، كما أن ابنيه (محمود ورحاب) كانا يقضيان معظم الوقت معه في شهر رمضان.
«يسقط الاستعمار» مقابل 10 قروش!
كان أول ظهور على شاشة السينما للفنان عزت العلايلي في فيلم «يسقط الاستعمار» (1952)، وكان لا يزال صبيًّا في مدرسة الشيخ صالح الابتدائية في درب الجماميز بحي السيدة زينب.بدأت القصة عندما عرض عليه زميل له يعمل والده «ريجيسيرا»، أن يصطحبه إلى استديو شبرا، حيث طلب والد الزميل أن يصطحب معه أي عدد من التلاميذ يرغبون في الظهور على شاشة السينما، فعرض التلميذ الأمر على زملائه، ولم يوافق منهم سوى عزت العلايلي، الذي ذهب من دون علم أسرته، على أمل أن يعود في موعد عودته من المدرسة.
لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، وبقي في الاستديو حتى السادسة من صباح اليوم التالي، صوّر خلالها مشهدًا واحدًا ضمن مجموعة تلاميذ في مدرسة يخرجون في جماعة يرددون: «يسقط الاستعمار»، وحصل على أجر 10 قروش أنفقها على طعامه وشرابه في تلك الليلة، ونفدت نقوده، فمشى سيرًا على الأقدام، ليعود إلى بيته في حي السيدة زينب صباح اليوم التالي!
وهناك وجد في استقباله أفراد أسرته وبعض الجيران، وكان والده قد حرّر محضرًا بقسم الشرطة عن اختفاء ابنه، معتقدًا أنه تعرّض لحادثٍ أو عملية اختطاف، حيث تغيّب عن المنزل نحو الـ20 ساعة. وأخذوا يبحثون عنه في كل مكان، ولكن دون جدوى، ليتلقى عقابًا قاسيًا من أبيه، لا سيما بعد أن عرف أنه ذهب ليمثل في السينما.
وأصبح تلميذ المدرسة الابتدائية، ممثلًا بالمصادفة، حين ظهر في فيلم «يسقط الاستعمار» بطولة وإخراج حسين صدقي، وتمثيل الفنانة شادية ونبيل الألفي ومحمد الديب، ويدور الفيلم حول فهمي، مدرس التاريخ الذي يخرج ليحضر طبيبًا لزوجته التي كانت على وشك الولادة، فيسقط شهيدًا في تظاهرة ضد الاستعمار، ويولد الابن «مجاهد»، وتربّيه أمه على كراهية الإنكليز.