ما قل ودل: متى يصحو الضمير الإسلامي والعربي على مسؤوليته التاريخية؟ (1-2)
عن نكبة فلسطين
بدأ الضمير الإنساني العالمي يصحو على هذه النكبة في المظاهرات الشعبية الصاخبة في كل أرجاء الكون، حتى في عقر قادة النظام العالمي، شركاء إسرائيل في هذه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، بدءاً بغزة، بل سارعت بعض الحكومات غير العربية وغير الإسلامية إلى طرد سفير إسرائيل وقطع علاقاتها مع إسرائيل، وإلى المطالبة بالاعتراف بفلسطين، دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، وإلى رفع قضايا أمام محكمة العدل الدولية، وأمام المحكمة الجنائية الدولية بجرائم حرب وإبادة.
ولا يزال العرب والمسلمون في إغفاءة بدأت منذ زمن طويل، والشعب الفلسطيني يعاني سكرات الموت كل يوم وكل ساعة بقتل وإبادة، أفراداً وجماعات، وقد تكررت الحرب على غزة أكثر من مرة لاستئصال شعبها الصامد الأبي في صمت عربي وإسلامي وعالمي، وسكون بلغ حد سكون القبور، وقد امتلأت القبور بآلاف الجثث من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال كما امتلأت سجون المحتل الإسرائيلي بآلاف الأسرى من الشعب الفلسطيني، وسالت دماء الشهداء من القادة الفلسطينيين الشرفاء في اغتيالات على أرض فلسطين وغيرها في شتى أنحاء العالم.
فكان لا مفر أمام المقاومة الفلسطينية من اختراق هذا الصمت الرهيب، الصمت العربي والإسلامي والعالمي، وهو ما أزعج الحكام العرب والمسلمين وأيقظهم من هذه الإغفاءة الطويلة التي نعموا فيها براحة البال والاطمئنان إلى أن القضية الفلسطينية لم يعد طنينها يؤرق أسماعهم في هذه الإغفاءة فعقدوا كالعادة مؤتمرهم الجامع بين الحكام العرب والمسلمين الذي عقد في الرياض في 11 نوفمير 2023، وكالعادة في مثل هذه المؤتمرات تتلى الكلمات، وتبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، ويختلفون، ثم يتفقون، ثم إن القرارات التي تصدر بعد هذا الاختلاف وهذا الاتفاق، تصدر دفعاً لإراقة ماء الوجه وإنقاذا لهيبة المؤتمر أن تضيع.
وكالعادة فإن مثل هذه القرارات تصدر منذ مولدها ضعيفة هزيلة، كالشاة النحيفة المريضة التي لا تقوى أرجلها على حملها، فيأنف أصحابها حتى من ذبحها، وكالعادة فإن القرارات لا تردّ وطناً سليباً ولا تحرر شبراً من الأرض، بل لا تأتي بجديد للواقع العربي والإسلامي الذي يمزقه الضياع والانقسام، ولا أحد يطلب من هؤلاء الحكام تحريك الجيوش الجرارة والأساطيل العابرة للقارات التي يملكها حكامنا جميعاً في هذه الحقبة العصيبة التي تعيش فيها أمتنا العربية والإسلامية، وقد أصبحت قرارات بعضهم تصدر من البيت الأبيض، والبعض الآخر يصدرها حسب أهواء هذا البيت وأغراضه، والبعض الثالث يصدرها ويداه ترتعشان ولا تكتمان الخشية من غضبة هذا البيت، وترسانته العسكرية التي تجوب المحيطات والبحار، وحلفائها من أصحاب هذه الترسانات وإسرائيل صنيعتهم، وقاعدتهم العسكرية في الشرق الأوسط، وجواسيسهم المنتشرين في أرجاء الوطن العربي والإسلامي كافة لتدبير المؤامرات والانقلابات على كل من تسوّل له نفسه من هؤلاء الحكام الخروج على طاعة أولي الأمر في البيت الأبيض، إنما تطالبهم شعوبهم بأن يقفوا موقفاً إيجابياً واحدا كالموقف الذي وقفته كولومبيا عندما طردت سفير إسرائيل لديها أو الأروغواي أو إسبانيا عندما طالبت بالاعتراف الدولي في ساحة الأمم المتحدة بفلسطين كدولة كاملة العضوية التي اتخذتها بعض حكومات دول غير عربية وغير إسلامية من القضية الفلسطينية ومن العدوان الهجمي البربري على شعب غزة، والتي اتسمت بالشجاعة والإنسانية والحكمة السياسية، والدول العربية والإسلامية أولى بذلك من غيرها لتتحمل مسؤوليتها أمام التاريخ وأمام شعوبها الرافضة لنكبة فلسطين أو لعدوانها البربري الهمجي، فتتحمل بذلك مسؤوليتها التاريخية عن هذه النكبة، وهو ما سنستعرضه فى هذا المقال من المسؤوليات الآتية:
أولاً: مسؤولية الملك العضوض في الدولة الإسلامية:
عندما تخلت الدولة الإسلامية في الملك العضوض، منذ العهد الأموي عن نشر الإسلام، في جوهره وأساس الحكم فيه، في كل وطن من الأوطان التي فتحتها الجيوش الإسلامية، فلم تعمل على ترسيخ مبادئ الإخاء والحرية والمساواة، ومبدأ سيادة الأمة، الذي هو جوهر الحكم في الإسلام في قوله تعالى، و«أمرهم شورى بينهم»، فانحرفت هذه الدول عن هذه المبادئ التي كانت أسبق من نظيرتها في الثورة الفرنسية بقرون الى الاستبداد بالرعية، تحت عباءة طاعة أولي الأمر، فنكلوا في الدولة الأموية بالرعية، وجاء بعدهم العباسيون ليستبدوا وينكلوا بالرعية وبالأمويين، واستبد العثمانيون بالرعية كذلك من المسلمين من مواطني البلاد المفتوحة، وساقوا الأرقاء من كل بقاع الأرض التي فتحوها، ليجندوهم في جيوش تحمي عروشهم، وتغزو باقي البقاع، فاستقل بعض هؤلاء الولاة ببعض البلاد المفتوحة، ثم تركوها للقوى الاستعمارية، التي اجتاحت الأرض العربية، وانتدبت على فلسطين لتقدمها لقمة سائغة للصهيونية العالمية التي استباحت الأرض والعرض والشرف والكرامة، وهجرت الفلسطينيين الى شتات الأرض.
وكان هذا الحكم الاستبدادي يصاحبه حاشية السوء من علماء زينوا للحكام الاستبداد والفساد وسفك دماء المعارضين والزج بهم في السجون أو نفيهم عن البلاد وقد التووا بتفسير القرآن الكريم الى تقديس طاعة الحاكم ولو كان فاسقا أو ماجنا، وفي هذا السياق كله أغفل حكام المسلمين ما للروابط الثقافية في البلاد المفتوحة من تعايش في مجتمعاتها على أساس ثقافة وتقاليد ومصالح مشتركة باعتبار كل ذلك قوة لبنيان الدولة الإسلامية واستقرار الحكم فيها.
ثانياً: المسؤولية التاريخية للدول العربية:
فقد أسست هذه الدول جامعة الدول العربية لتوحيد صفوف الأمة العربية في أحلك أيام تمزقها وأسوأ أيام هوائها تحت احتلال بريطانيا وفرنسا وقرار القمة العربية الصادر في اجتماع هذه الجامعة في ديسمبر 1947 والذي قررت فيه الدول العربية رفضها قرار تقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين الذي أصدرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947.
وبانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الخامس عشر من مايو 1948 دخلت الجيوش العربية فلسطين لتحرير أرضها المقدسة من عصابات اليهود، وفقا للقرار الذي كانت الدول العربية قد اتخذته بالإجماع في جامعة الدول العربية بتاريخ 12/ 4/ 1948 دون أي مخطط للتنسيق بين هذه القوات التي كان الاستعمار البريطاني والفرنسي يتحكم في تسليحها والهيمنة على كل مقدراتها، وقد تمكنت من السيطرة على جنوبي فلسطين، إلا أن الجيش الأردني والعراقي وقفا بقيادة الجنرال غلوب باشا البريطاني عند حدود قرار التقسيم بالرغم من الانتصارات التي حققها الجيشان والسرعة الهائلة التي تحققت في طرد هذه العصابات من الأرض الفلسطينية التي احتلتها بما يعد اعترافا بشرعية قرار التقسيم الذي كان العرب جميعا قد رفضوه وكان السبب في دخول الجيوش العربية فلسطين.
وكانت الغاية الحقيقية من الوقوف عند هذه الحدود، التي استبانت للجميع بعد ذلك، هي رغبة مملكة الأردن في ضم هذا الجزء من قرار التقسيم الى المملكة، وهو ما أعلنه الأردن بعد انتهاء الحرب والنصر الذي حققته عصابات إسرائيل على الجيوش العربية بعد الهدنة التي فرضتها الأمم المتحدة في القتال الدائر على الأرض الفلسطينية بعد أسبوع واحد من بدء الحرب بسبب الخسائر التي لحقت باليهود في هذه الحرب ليتسنى لهذه العصابات إعادة بناء قواتها العسكرية من المتطوعين من كافة أنحاء العالم، يهود وغيرهم، ومن المال والسلاح والعتاد الذي زودت به من النظام العالمي الذي تهيمن عليه دول الأفيال الخمسة في مجلس الأمن.
وقد أدى سقوط اللد والرملة في يد الصهاينة التي أهمل غلوب باشا تحصينهما إلى كشف المجنبة اليمنى للقوات المصرية وحصار الفالوجا بعد خرق اليهود للهدنة الثانية وحصول الصهاينة على قاعدة جوية مهمة في اللد، وقد كان يفترض أن تقوم جامعة الدول العربية والأمة العربية والإسلامية قاطبة بالسعي الى تشكيل حكومة فلسطينية على الأرض المتبقية من قرار التقسيم في ظل الشرعية الدولية لهذا التقسيم لاعتراف المجتمع الدولي بدولة فلسطين، وانضمامها الى الأمم المتحدة أسوة بدولة إسرائيل التي أعلنت قيامها فور قرار التقسيم، وضمت إلى الأمم المتحدة في العام التالي مباشرة، إلا أن العرب تقاعسوا عن ذلك بعد ضم المملكة الأردنية الضفة العربية إلى المملكة، وبعد أن أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية وهو خطأ كبير لا يغتفر، وقد أدى ذلك الى أن أصبح حلم الدولتين من أضغاث الأحلام التي ترفضها إسرائيل.
ومن المؤلم والمؤسف أن تطالب إسبانيا الآن بالاعتراف الدولي بفلسطين وحصولها على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ولم يطالب العرب بذلك منذ عقود من الزمن.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.