في البداية، لا شك في أهمية الوظيفة القيادية الحكومية في إدارة الجهة الحكومية وتحقيق أهدافها، لذلك يُفترض فيمَن يتولّى مثل هذه الوظائف توافر الإمكانات والقدرات المتميزة، إضافة الى الخبرات الكبيرة، مما يؤهله للقيام بواجبات ومهام الوظيفة القيادية في سبيل حماية حقوق الجهة ومصالحها. إلّا أنه من الملاحظ في السنوات الماضية صدور أحكام قضائية ضد جهات حكومية عدة، تقضي بدفع تعويضات مالية باهظة نتيجة لقرارات صادرة من قياديين في تلك الجهات باسم الجهة التي يمثّلونها.

مثل هذه القضايا وما ترتب عليها من مطالبات بتعويضات، سواء صدرت فيها أحكام نهائية أو لا، أرى أنه أمر يستدعي الوقوف عنده لنقاش مسبباته وآثاره على خزينة الدولة وعلى الصالح العام، خصوصا أنه يأتي في سياق تصريحات حكومية بتوقّع عجوزات في الموازنة القادمة، ووجوب تبنّي إصلاحات مالية.

Ad

كذلك أهمية التطرّق لهذه القضية وتخصيص مقالة لها هي في تكرار صدور مثل تلك الحالات وما شابهها، بسبب سلوكيات وممارسات تتحصن خلف الشخصية الاعتبارية الحكومية. ولكن نودّ الإشارة الى أن المقصود هنا هو القضايا يكون فيها شبهة العمد أو الاهمال الجسيم وليس التي تنشأ عن اجتهاد مستفيض، وتتعلق بمسائل خلافية يكون فيها الخطأ واردا.

ومن الأمثلة على تلك القضايا لا الحصر، حكم محكمة التمييز عام 2022 على وزارة التجارة والصناعة وآخرين متضامنين، بدفع تعويض مؤقت مليون دينار لمصلحة مستثمر.

أيضا، حصول مستثمر على حكم نهائي ضد الهيئة العامة للصناعة بقيمة 1.14 مليون دينار في العام الحالي 2024. وكذلك الهيئة العامة للصناعة صدر ضدها حكم هذا العام، وإن كان ليس نهائيا، بدفع تعويض هو الأضخم، حيث يبلغ 114 مليون دينار لمصلحة شركة كويتية بسبب فسخ عقد مشروع تجاري. أيضا، حكم لا يمكن تجاهله وإن كان مضى عليه نحو 10 سنوات، وهو حكم قضية الداو كيميكال بتعويضها عن فسخ العقد وتكلفتها التي بلغت نحو مليارين ونصف المليار دولار.

كذلك، تم تحميل مؤسسة البترول رسوم إعادة جدولة تبلغ «نصف مليار دينار»، نتيجة لعدم التزامها بتوريد أرباح لجهة هيئة الاستثمار أثر تسوية، وهي وإن كانت ليست نتيجة لحكم قضائي، إلا أنها تأتي في نفس سياق تحميل الجهة الحكومية لسلوكيات أفراد يعملون تحت مظلة الشخصية الاعتبارية.

وفي نفس السياق، أجابت الهيئة العامة للرعاية السكنية أخيرا عن سؤال برلماني بصدور أحكام قضائية ضدها تبلغ تكلفتها 7 ملايين دينار من يناير 2020 الى منتصف نوفمبر 2023، وهي أحكام نهائية.

هذا كله، خلافا للتعويضات الخاصة بالقضايا الإدارية، والتي هي الأخرى مكلفة على خزينة الدولة، خصوصا التي يثبت فيها العمد وعدم الالتزام بتنفيذ الأحكام الصادرة.

أما فيما يخص أسباب مثل هذه الحالات، فإننا نعتقد بوجود فجوة قانونية لا تضبط مثل هذه السلوكيات في حالة العمد تحديدا والإهمال الجسيم. بيد أن هنالك من يعتقد بوجود قوانين وإن كانت غير محكمة في هذا الشأن، ولكن السبب هو الرغبة في إيجاد مساحة حرّة لمن يتولى هذه الوظائف لاستخدامها لأهداف معيّنة.

في المقابل، نجد أن القوانين واللوائح المنظمة لعمل مؤسسات القطاع الخاص تعطي للجهات المشرفة والمنظمة الحق في معاقبة من يتولى مسؤولية هذة الشركات من أعضاء مجالس إدارة أو إدارة تنفيذية «بصفته الطبيعية» في حال ارتكاب أعمال تؤثر على حقوق ومصالح المؤسسة، سواء بغرامات مالية أو عزل أو حتى إحالة للنيابة، رغم أنها تدير أموالا خاصا قد تكون لمساهمين قلة.

أما بالنسبة الى آثار مثل هذه القضايا، فهي بلا شك تبدأ بتبعات مالية مكلفة، وتنتهي بسوء استخدام الصلاحيات الوظيفية وزعزعة الثقة في الآلية التي تدار بها المؤسسات الحكومية فيما يخص علاقاتها مع الجهات الأخرى. بالتالي نرى أن تكرار صدور مثل تلك الأحكام بتعويضات مالية لمصلحة متضررين ضد بعض الجهات الحكومية أمر مستغرب جدا، خصوصا في ظل وجود جهات رقابية عدة، وكذلك وجود جيوش من المستشاريين في جميع الجهات الحكومية، مما يدفعنا لطرح تساؤل مستحق، هل هنالك نص قانوني يحاسب المسؤول في حال أصدر قرارا أو امتنع عن تنفيذ نص قانوني نتجت عنه أحكام قضائية ملزمة بتعويضات مالية في حال ثبوت الإهمال الجسيم أو العمد؟

وإن كان المشرّع يرى أن مثل تلك القرارات أو المهام وما قد يترتب عليها من أخطاء هي مجرد اجتهادات لا ينبغي محاسبة المسؤول عليها، حتى وإن ترتبت عليها أحكام ملزمة بدفع تعويضات مالية، فما ضوابط عدم إساءة استخدام السلطة الممنوحة له؟!

ختاماً، يجب الإشارة الى أن نجاح أي رؤية إصلاحية يعتمد بالدرجة الأولى على إيمان وقناعة المواطن بها، فهو الركيزة الأساسية قبل أي عامل آخر.

لذلك، هل تعتقد الحكومة أن عدم معالجة هذه الإشكالية المتكررة والمكلفة، لن يضعف ثقة المواطن فيما تقدّمه من سياسات مالية إصلاحية يشعر أنها تستهدفه، وتغضّ النظر عمّن يملك النفوذ والسلطة؟ ويبقى السؤال الأهم: كم حجم الملايين التي ستدفع من خزينة الدولة بسبب ممارسات وسلوكيات تختبئ خلف حصانة الشخصية الاعتبارية الحكومية، الى أن يتم ضبط تلك الثغرة بقانون؟!

* أستاذ التمويل ومحاضر سابق في جامعة بورتسموث - المملكة المتحدة

Soud.almutairi@port.ac.uk