ينسب إلى أحد السياسيين الغربيين قوله: «إن لم يكن مقعدك على المائدة فأنت حتماً على قائمة الطعام»، مؤكداً من خلال مقولته خطورة خروج الدول والمجتمعات من ميدان الإنتاج واستسلامها لواقع التقاعس عن المشاركة في صناعة القرار.
فهل يحق لمن يتباهى بردائه المصنوع من أغلى الأقمشة ألا يفكر بصناعة الإبرة؟! وهل يجوز لمن يؤمن بنظرية المؤامرة أن يتعايش معها ويستسلم لها دون التفكير حتى في مقاومتها!؟ وهل لمن يقاطع بضائع الأعداء ويخاصم من والاهم أن يكتفي باستجداء النصر دون أن يأخذ بالأسباب البشرية لتحقيقه؟! وهل للدول الغائبة عن طاولة القرار أن تأمل الازدهار والاستقرار؟
هنا يكمن الفرق بين الاكتفاء بإدانة الكيان الإسرائيلي وما فعلته جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية؟ وهنا يتبدّى فشل وهوان المنظومة اللبنانية الحاكمة بانتظارها لموفدين من هنا ولجنة خماسية من هناك لتتوافق على من ترضي به رئيساً للبلاد، وهنا نستذكر غياب النظام السوري عن جميع المؤتمرات والاجتماعات والطاولات التي ناقشت مستقبل سورية والمنطقة، وهنا نفهم كيف تتحكم المصالح الخارجية بالوضع الداخلي في كل من ليبيا والعراق ومعظم الدول المفككة أو الضعيفة.
مشكلتنا الرئيسة في أوطاننا، الى جانب الفساد متعدد الأوجه والأشكال والطبقات، وجود مجتمعات استمرأت الرفاهية الريعية وعاشت في قوقعة الاتكالية، ومسؤولون يتخلون حتى عن أبسط واجباتهم بمجرد أن يلفح وجوههم لسع النقد أو حمى المساءلة الشعبية والسياسية، فطالما أن الأمور تسير على «البركة»، وطالما أن المصالح الشخصية أو المالية محقّقة، فلا داعي لتحمل عواقب القرار ولا حاجة للدخول أساساً في مشقّة الاختبار!
***
في عالم يموج بالتحولات ويعجّ بالتحديات تزداد أهمية التعاون الدولي لتجاوز العقبات وتحقيق التقدم، وقد بات واضحاً أن المتأخرين عن مواكبة المستجدات يسبقهم الركب بمسافات طويلة وبخطى متسارعة، وأن الدول التي تلتفت أو تعجز عن الحضور على طاولات صناعة القرار الدولي تواجه خطرا كبيرا في تهميش مصالحها والتغاضي عن تطلعات شبابها وقيم مجتمعاتها.
فمهما عانينا من وهن أو ضعف، ومهما كانت قائمة الطعام لا تناسب أذواقنا، فإن الجوع الى ما يشبعنا سيتمادى أجله وستزداد حدّته إذا لم نجلس على مقاعد المائدة لنتشارك فيما وضع عليها من أطباق محاولين على الأقل استبدال ما لا يلائمنا منها.
وهكذا فإن الدفاع عن القيم وتحقيق المصالح الوطنية، والتأثير في الأجندات الدولية، وبناء العلاقات وتبادل المعلومات، والمشاركة في صناعة القرارات المصيرية المتصلة بالأمن والطاقة والاقتصاد، وفتح آفاق للأجيال والمستقبل... كل ذلك لن يكون بمشاهدة الفيلم عن بعد، بل بالانخراط في صناعته، كل حسب إمكاناته وطاقاته وتدرجه في الوظيفة التي يقوم بها أو الدور الذي يؤديه.
وهكذا فإن كل لحظة تأخير عن الدخول في السباق التنموي ربما يؤدي الى استبعادنا النهائي عن قائمة المشاركين، ولن يشفع لنا ساعتئذ كل ما ندّعي أو نظن امتلاكه من ثروات طبيعية وبشرية، ولن ينفعنا بعد ذلك توقنا للفوز أو تاريخنا من الانتصارات أو نوايانا بالتحرك، فالحضارة والتنمية تعدّى إيقاعهما الخطى المتسارعة للتقدم التكنولوجي ليدخل في المسار السريع للذكاء الاصطناعي و«أخواته».
مهما كان الموقف من سياسة «الصبر الاستراتيجي» و«دبلوماسية عض الأصابع» التي يتّبعها النظام الإيراني منذ زمن، فقد أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها في جعل الإيراني جالساً على مائدة الطعام وشريكاً في تقاسم بعض الأطباق، ولا يهمّ إن كان ذلك بتخطيط وقبول من الذين ينافسونه في النهم أو كان بعدم رضاهم ورغماً عنهم، فقد اعتاد صنّاع السجاد الفارسي أن يشتغلوا على حياكته بهدوء وعزم حتى تتكامل خيوطها وتتسع رقعتها، ومنذ نجاح «الثورة الإسلامية» عام 1979 اتبعت السياسة الخارجية الإيرانية- بنوعيها الدبلوماسي والعسكري- مساراً طويلاً ومنهجاً ثابتاً أدى، رغم معارضة القريب والبعيد له، الى تمكين ايران من الجلوس على طاولة القرار وتقاسم المصالح، فمهما اشتد الحصار ومهما بلغ الاستفزاز ذروته، فإن انتظار «التوقيت الملائم للرد» كان كفيلاً بتحقيق بعض الأهداف على المدى الطويل، ومهما تزايدت الضغوط وعلت لهجة الخطابات العدائية فإن «اختيار الطريقة المناسبة» هو البديل عن المواجهة!
***
صحيح أن بعض «الأسود» من ورق، وصحيح أن بعض الصبر تجميل للعجز، وصحيح أن بعض الشعارات أصبحت ممجوجة، وصحيح أن الأغنام لا يمكن أن تأمن يوماً مكر الذئاب، إلا أن الهروب الآني من درب المقصلة لا يكفي وحده لإنقاذ الرؤوس بل السعي الجدّي لإبعاد الجلاّد أو استبعاد الحكم بالإعدام.
التاريخ لا يذكر إلا من ساهم في كتابة سطوره، والواقع لا ينصف إلا من يشارك في رسم ملامحه، والمستقبل يبقى سراباً لمن يخشاه أو يتجاهل تحديات قدومه، ولكل شيخ طريقته ولكل دولة أسلوبها ولكل مجتمع خصوصياته.
* كاتب ومستشار قانوني.