نصائح المؤسسات الائتمانية... ليست فوق النقد
«فيتش» تحض على الاستدانة بلا إصلاح وتمتدح برنامجاً حكومياً شبه منتهٍ
• «المالية» و«المركزي» مستشارا الحكومة... وليس من عمل المستشار التحرّج من الانتقاد
يفتح التقرير الذي أعلنت فيه وكالة فيتش هذا الأسبوع تثبيت التصنيف السيادي للكويت عند المرتبة «AA-»، مع نظرة مستقبلية مستقرة، مجدداً، التساؤلات حول مدى جدوى النصائح التي تسديها مؤسسات التصنيف الائتماني من جهتَي مدى واقعية التنفيذ، أو الفهم الصحيح للواقع السياسي - الاقتصادي، وربما حتى الاجتماعي في البلاد.
ومع تأكيد أن أي تصنيف سيادي ليس في حقيقته شهادة كفاءة للاقتصاد، بل يعتبر وصفاً للواقع المالي للدولة في وضع وزمن معيّن، ويتعلق بمراجعات فصلية أو سنوية، أو حتى بأوضاع طارئة محددة جيوسياسية واقتصادية وغيرها، وهو موجّه بالدرجة الأولى للجهات التي تمنح الائتمان، أي الدائنين، وموجّه أيضاً للمستثمرين الأجانب وكذلك المحليين، مما يستوجب التعامل معه في سياقه بلا تهوين أو تهويل، فإنّ مراجعة مدى ملاءمة النصائح التي توردها هذه المؤسسات الائتمانية للاقتصاد المحلي أمر واجب على الإدارة الاقتصادية للبلاد، قبل تبنّيها كحقيقة مطلقة.
موافقة ضمنية
فتقرير «فيتش»، مثله مثل العديد من تقارير التصنيفات الائتمانية، كـ «موديز» و»ستاندرد آند بورز» على مدى السنوات الماضية يحظى بموافقة ضمنية من أهم المؤسسات الاقتصادية في البلاد، وتحديدا وزارة المالية وبنك الكويت المركزي اللذين يتولّيان مهمة أعمال الترجمة والنشر لتقارير التصنيف الائتماني، من دون إبداء الرأي أو التعليق أو نقاش بعض النقاط أو انتقادها، أو استعراض التفاصيل.
تقارير التصنيفات الائتمانية لا تتطرق لما تعانيه الكويت حقاً وهو غياب «مشروع الدولة»
فالمطّلع على تقرير وكالة فيتش يرصد تركيزا لافتا على نقطتين أساسيتين من المفيد تفنيدهما، الأولى أن الوكالة تدعو الى إقرار مشروع قانون جديد للسيولة يسمح للكويت بإعادة إطلاق إصدارات الدَّين بعد انتهاء التفويض السابق عام 2017، أي اقرار قانون الدَّين العام دون أي إشارة الى أهمية الإصلاح الاقتصادي، أو حتى توجيه أموال الاستدانة الى مشاريع ذات قيمة مضافة، في وقت تصدر الحكومة مشروعاً للميزانية لا يحمل أي نفَس إصلاحي عن أي مشروع ميزانية سابق، فضلا عن وجود حد أدنى من القبول الحكومي لتمرير أي مشاريع مالية شعبوية تحت مسميات عامة غير دقيقة المعنى أو التفصيل، كتحسين المعيشة.
برنامج منتهٍ
أما الثانية فتتعلق بامتداح «فيتش» لبرنامج عمل الحكومة للسنوات (2024 - 2027) لكونه يتضمن، حسب وصفها «مبادرات لتعزيز الإيرادات غير النفطية، وإعادة هيكلة الدعم، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص في خلق فرص عمل للكويتيين وتخفيف العبء المالي»، ولعل جانبا مما ذكرته «فيتش» على الجانب النظري صحيح، لكن ما غاب عن التقرير أن حكومات الكويت أصدرت خلال 4 سنوات 8 برامج عمل حكومية، لا يكاد برنامج منها يتشابه مع الآخر، نتيجة تسارُع مجريات استقالات الحكومات، وحلّ مجلس الأمة وإبطاله، والانتخابات المتتالية، وهذه كلها نتيجة غياب «مشروع الدولة» الذي لا تتطرق له تقارير التصنيفات الائتمانية، مثل «فيتش» أو «موديز» أو «ستاندرد آند بورز».
معضلات مستحدثة
بل إن برنامج عمل الحكومة (2024 - 2027) الذي امتدحته «فيتش» يعتبر شبه منتهٍ عمليا مع حل مجلس الأمة والدعوة إلى انتخابات جديد بداية الشهر القادم، وهذا يعني أن عمر هذا البرنامج
الدول ليست شركات أو مصارف أو كيانات همّها الوحيد تحقيق الأرباح بل لديها مسؤوليات اجتماعية وتنموية
لن يتجاوز الشهرين، بينما هو أعد على فرضية العمل لـ 3 سنوات قادمة، وهذه واحدة من المعضلات المستحدثة في الكويت خلال السنوات الماضية، والتي تتمثل في استحالة تنفيذ أي برنامج أو خطة حكومية أو تعاون مع البرلمان، مادام العمر الحقيقي لأي منهما لا يستمر سنة في أفضل الأحوال، فالكويت منذ عام 2020 شهدت 4 انتخابات برلمانية وتشكيل 8 حكومات، وهذه الأوضاع تجعل امتداح أي برنامج حكومي كأنه انفصال عن الواقع.
وزن الانتقاد
وباستثناء تقرير نادر لوكالة ستاندرد آند بورز مطلع عام 2021، أي خلال جائحة كورونا عبّرت فيه عن تخوّفها من استنزاف أموال الدَّين العام في مصروفات جارية غير مفيدة للاقتصاد، فضلا عن انتقاد الحلول المالية المؤقتة وقتها كمبادلة أصول الاحتياطي العام بسيولة صندوق الأجيال، فإنّ معظم تقارير التصنيف الائتماني ترى الإصلاح المالي والاقتصادي بعين متخذ القرار الحكومي، فلا تسليط ضوء على الهدر أو منافسة الحكومات لمجلس الأمة في المصروفات الشعبوية، ولا مراجعة لجدوى أو عوائد مشروعات الدولة على سوق العمل أو الخزينة العامة، ولا انتقاداً لعدم القدرة على ضبط الميزانية العامة أو وضع سقف لإنفاقها... وغالبا ما يكون وزن الانتقاد في تقارير مؤسسات التصنيف الائتماني على مَن يمتلك السلطة الأقل من القرار، أي مجلس الأمة - وهو يستحق جزءا من النقد لا أغلبه - لأنّ سلطة القرار والتنفيذ الحقيقية موجودة داخل مجلس الوزراء.
منذ 2020 شهدنا 4 انتخابات وتشكيل 8 حكومات وهذه الأوضاع تجعل امتداح أي برنامج حكومي كأنه انفصال عن الواقع
الدولة ليست شركة
كما أنه من المهم عند التعامل مع تقارير المؤسسات الائتمانية وتوصياتها التنبه الى أن الدول ليست شركات أو مصارف أو كيانات همّها الوحيد تحقيق الأرباح، بل لديها مسؤوليات اجتماعية وتنموية أهمها معالجة البطالة وتطوير سوق العمل وتعزيز أوضاع الطبقة المتوسطة، فضلا عن توفير خدمات التعليم والصحة والسكن، وبالتالي فإن تقييد تصنيف الكويت بما ذكره التقرير بـ «الاعتماد الكبير على القطاع النفطي وضخامة حجم القطاع العام» بقدر ما هو صحيح إلا انه أيضا يجب ألا يكون على حساب المجتمع من خلال خصخصة غير منضبطة أو اقتراض بلا إصلاح مالي.
مستشار الحكومة
ولا شك في أن لتقارير وكالات التصنيف الائتماني وزنا من الأهمية، كما أسلفنا، بلا تهوين أو تهويل، بل من المفيد أن تصدر هذه التقارير وغيرها لتبدي آراء وملاحظات حول الشأن الاقتصادي المحلي، لكنّ المهم بالنسبة لنا ألا نتبنى كل ما تصدره هذه الوكالات بلا تعليق أو تفنيد، أو حتى وضع ملاحظة، وإن كانت ناقدة للسياسات الحكومية، فدور وزارة المالية وبنك الكويت المركزي هو «مستشار الحكومة الاقتصادي»، وليس من طبيعة عمل المستشار أن يتحرج التفنيد والنقد، مادام ضمن الأطر الفنية.