«إِنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضاً قطعَ، ولَا ظهْراً أبْقَى»، فالْمُنبَتّ هنا يُطلق على المنقطع عن أصحابه لطول سفره على ظهر دابته التي أعطبها وأجهدها الترحال، وهو قول نُسب إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين رأى رجلاً اجتهد في العبادة، حتى هَجَمت عيناه، وغارتا، فقال له: إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تُبَغِّضُوا إلى أنفسكم عبادة الله، «فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى».
فالدين صلب وشديد، فَسِر فيه برفق، ولا تَحْمِل على نفسك ما لا تطيق فتعجز عنه، ولا تُكلف نفسك بأعمال ما تخالف فيه العادة، فتنعكس أموره، فيصير ما كان محبوباً عندك ممقوتاً، وما كان مكروهاً عندك مشرباً هنيئاً لا ينفر عنه.
والْمُنْبَتُّ يصبح كالذي انقطع به السير في السفر، وعطلت راحلته، ولم يقضِ وطره، فلا هو الذي قطع الأرض التي أراد، ولا هو الذي أبقى على ظهره، أي أبقى على دابته التي يركبها سليمة لينتفع بها فيما بعد، وقد قال رسولنا في ذلك: «عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يَمَل حتى تَمَلُّوا»، وقال: سددوا، وقاربوا، وأبشروا، فإنه لا يُدخِل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يَتَغَمّدني الله برحمته.
كما أنه عليه السلام نهى عن الوصال في الصوم لما فيه من المشقة، فقال: لا تشددوا، فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، وقال: إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، وقال تعالى في ذلك: «رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم».
فهو مثل يُضرب لمن يُبالغ في طلب الشيء، ويُفْرِط فيه حتى ربما يُفَوِّته على نفسه، ويخسر ما اجتهد من أجله، فخير الأمور أوسطها، وقد قال أعرابي للحسن البصري: عَلِّمني ديناً وَسُوطاً، لا ذاهباً فَرُوطاً، ولا ساقطاً سَقوطاً، فقال: أحسنت يا أعرابي، خيرُ الأمور أوساطها.
جعلنا الله من الوسطيين، وقول الحق وإن كان مُرَّاً، وألا نخاف في الله لومة لائم، وألا نسأل الناس شيئاً.