عن نكبة فلسطين
تناولنا في مقالين متتالين 11 و18 من الشهر الجاري مسؤولية الملك العضوض في الدولة الإسلامية في عصوره الثلاثة الأموي والعباس والعثماني، وانحرافه عن نشر الإسلام في جواهره ومبادئه السامية في الإخاء والحرية والمساواة إلى الاستبداد، ومسؤولية الدول العربية- تحت الاحتلال- التي دخلت جيوشها العربية أرض فلسطين، فأضاعت الأرض في أول المقالين، وتناولنا في ثانيهما كيف سلبت ولاية القضاء في هذه العصور الثلاثة في حفظ النفس التي حرم الله قتلها بغير حق، فانفرد الحكام في هذه العصور الثلاثة خلفاء وولاة بقطع رقاب من يخالفهم الرأي، ولو كان من حق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستطردنا إلى الأمن الفلسطيني باعتباره أمناً قومياً عربياً، كما تناولنا الحرب النفسية التي تمارس الآن على النصر الكبير الذي حققه أبطال حماس في السابع من أكتوبر ليصحو ضمير الأمة الإسلامية والعربية على مسؤوليتهم التاريخية عن ضياع الأرض الفلسطينية.
ولأن أسباب هذه المسؤولية كثيرة ومتعددة لا يتسع المقال الصحافي لها فقد آثرنا أن نعرض لبعضها في المقالين السابقين، لنكمل في هذا المقال، أثر الحرب النفسية المدمر في حياة الشعوب بأن نستفيد من تاريخنا القومي بعض ما يبدد اليأس والقنوط الذي نصبح ونمسي عليه في هذا الزمن الرديء.
نضالنا القومي
إن نضالنا بدأ ضد الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، اللذين كانت الأرض العربية مطمعهما منذ فجر التاريخ الحديث، فتحالفا باتفاقية سايس ببكو في عام 1904 لاقتسام هذه الأرض، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، لتكون وطنا لليهود، وقاعدة استعمارية لهم ولأميركا والاستعمار في ثوبه الجديد المتأنق بتمثال الحرية، والمنمق بالديموقراطية والمتدثر بحقوق الإنسان.
وفي مرحلة من مراحل هذا التنازع بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي في القرن الثالث عشر جهز لويس التاسع ملك فرنسا جيشا جرارا لغزو مصر، فيما يعرف في التاريخ بالحرب الصليبية السابعة، ونزل لويس التاسع بجيشه في دمياط، ثم اشتبك مع جيش المسلمين في معركة المنصورة التي انتهت بهزيمة الفرنسيين وقتل منهم حوالي 30 ألفا، وغرق في النيل الكثير منهم وأسر الملك لويس وسجن في دار ابن لقمان إلى أن افتدى نفسه وبقية جنوده بمبلغ عشرة ملايين فرنك فرنسي.
مقاومة حملة نابليون
وكانت أعراض الاضمحلال والتنكيل قد نخرت عضد الإمبراطورية العثمانية، فدبّ التنافس من جديد بين الاستعمار البريطاني والفرنسي على احتلال مصر، ليقود نابليون بونابرت جيش الشرق مع صفوه من القادة الفرنسيين العسكريين، واصطحبت الحملة معها طائفة من علماء فرنسا ونوابغها في الرياضة والهندسة والطب والجغرافيا والفلك والأدب والكيماء والاقتصاد والآثار والمعادن وطبقات الأرض والحيوان والنبات وفن المعمار وهندسة الري والقناطر والجسور والميكانيكا، ومن الفنانين كما زودت الحملة بمطبعة.
وهذا يعني أن نابليون القائد العسكري العبقري قد أدرك أهمية الحرب النفسية، فجمع بين أدوات القتل من المدافع والقنابل والأسطول البحري وأدوات التنوير باعتبار أن الحرب العسكرية لا غنى لها عن الحرب النفسية، لإقناع الشعب المصري، أن فرنسا جاءت لتحرير المصريين من استبداد المماليك في ظل الحكم التركي، وللنهضة بمصر، فأنشاء نابليون الديوان لانتخاب أعضاء ممثلين عن الأمة يختارهم المشايخ والوجهاء فيه، إلا أن الفرنسيين فوجئوا، بعد أن نزلوا الأراضي المصرية، بما لم يكن في حسبانهم، وأن حملتهم على مصر لن تكون أكثر حظا من حملة الملك فيليب.
حاكم الإسكندرية يفتدي وطنه بحياته
عندما تحرك الأسطول الفرنسي في حملة نابليون على مصر (1798) واستولي على مالطة قادما إلى الإسكندرية، طلب القنصل الفرنسي مقابلة محمد كريم، نقيب الأشراف وحاكم الإسكندرية، فلم يأذن له بهده المقابلة إلا مصحوبا بنونية الثغر (من مذكرات الكاتب الفرنسي بيغان ديتون) وعندما أمر نابليون بإعدامه رميا بالرصاص ومصادرة أمواله وأملاكه ليثير الرعب والفزع والخوف في قلوب المصريين أظهر جلداً وشجاعة أمام حكم الإعدام ليعزز في نفوس المصريين مقاومة الغزو الفرنسي، وعندما سمح له أن يفتدي حياته بسداد غرامة مالية قدرها ثلاثين ألف ريال رفض دفع هذه الغرامة، وكان قد نصحه المستشرق (فانتور) كبير تراجمة الحملة الفرنسية بأن يدفع الغرامة، وقال له إنك رجل غني، فماذا يضيرك أن تفتدي نفسك بهذا المبلغ فأجابه السيد محمد كريم «إذا كان مقدراً عليّ أن أموت فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وإذا كان مقدراً لي الحياة فعلام أدفعه» وظل على إصراره إلى أن نفذ عليه الحكم رميا بالرصاص. (مراسلات نابليون- الجزء الرابع).
ومن غرائب القدر أن السيد محمد كريم غادر البارجة (لوريان) في يوم 30 يوليو قبل أن تغرق ويموت من فيها في واقعة أبو قير بيومين، فنجا من الكارثة التي حلت بالأسطول الفرنسي ليصدر حكم إعدامه يوم أول أغسطس فيموت شهيدا على يد الجلاد في القاهرة ولكل أجل كتاب، «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...»، وهو ما أثار المصريين الذين خرجوا لمقاومة الحملة الفرنسية في معركة شبراخيت بالبحيرة وفي إمبابة والأهرام وفي القاهرة وفي أبو قير في الإسكندرية وفي رشيد وفي القليوبية والشرقية، وفي معارك الخانكة وأبو زعبل وبلبس والصالحية.
وثارت القاهرة في وجه الفرنسيين في 21 أكتوبر سنة 1798 بثورة لم يتوقعوها، وهم الذين فتحوا عواصم القارة الأوروبية، وهزموا جيوش الدولة العثمانية، وقد كانوا يتوقعون من هذه المدينة الهادئة الوادعة التي احتملت ظلم حكامها عبر السنين الطوال، أن تستسلم للحملة الفرنسية، وقد أنشأ نابليون ديوانا لحكم البلاد، يختار المشايخ والوجهاء فيه أعضاءه من أهالي البلاد بطريقة نسبة الانتخاب على درجتين.
وقد بث استشهاد محمد كريم الكرامة والعزة في نفوس المصريين، وبالرغم من فظائع الفرنسيين في إخماد الثورة، فقد كان لثورة القاهرة صداها في المنوفية والغربية وفي الدقهلية ودمياط وفي الوجه القبلي، وإن روح العداء للفرنسيين كانت أقوى من ترسانة سلاحهم، وقد كتب الجنرال بليار في يومياته «إن كل القرى التي تجتازها القوات الفرنسية، خالية من السكان»، وكتب إلى الجنرال ديزيريه رسالة يقول فيها «إننا نعيش هنا معيشة ضنك، وكلما اقتربنا نجدها مقفرة، ولا نجد فيها شيئا من القوت، ولا نرى فلاحا واحدا يدلنا على الطريق، أو يأتينا بأخبار أو يحمل رسائلنا».
فقد قاوم المصريون الحملة الفرنسية بعدم تزويدها بالماء والزاد وتهريب الجمال كي لا يستعين بها الفرنسيون في ذلك، والهجوم على الحملة في زحفها بين المدن والقرى المصرية، ويقول الجنرال (ديموي) أحد قادة هذه الحملة الفرنسية إنه لم يجد مصريا واحدا يحمل الشارة الفرنسية، وقد لحق بالحملة الفرنسية هزائم متعددة، هزيمة الجنزال (ديموي) ولقي الجيش الفرنسي الزاحف إلى القاهرة مقاومة من الأهالي الذين كانوا يتعقبون كل من يدركونه من قواته التي تتخلف إعياء أو تعبا فيقتلونه.
وفي سياق هذا المقاومة قتل الجنرال ديبوي قومندان القاهرة كما قتل الكولونيل (سلكوسكي)، والجنرال كليبر بيد سليمان الحلبي الطالب السوري في الأزهر الشريف، وتوالت الثورات المصرية حتى تم إجلاء الفرنسيين عن مصر بالرغم من بشاعة الفرنسيين وهدمهم للقرى بالمدافع وقتلهم أهالي قرى بأكملها بعد مقتل قادتهم وتوجيه مدافعهم إلى الأزهر الشريف الذي كانت تخرج منه الثورات بقيادة علمائه.
العدوان الثلاثي على مصر 1956
ولقد تخالف الاستعمار البريطاني والفرنسي ودميتهما إسرائيل على مصر، فانطلقت القاذفات البريطانية في أجواء مصر تضرب مطاراتها، وزحف الجيش الإسرائيلي على غزة وسيناء ونزل المظليون البريطانيون والفرنسيون في مدينة بورسعيد في عدوانهم الثلاثي على مصر الذي بدأ في 31 أكتوبر سنة 1956.
ولم يكن النصر الذي حققتة مصر في دحر هذا العدوان نصرا عسكريا، بل نصرا سياسيا، كان سلاحة الأول الذي استخدمة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حربا نفسية ترفض الهزيمة، بالتضامن العربي والعالمي، الذي حقق هذا النصر.
كانت الحرب النفسية التي خاضها الرئيس جمال عبدالناصر عندما استقل سيارة مكشوفة سلكت طريقها في شوارع القاهرة بين الجماهير المحتشدة على طول الطريق متجها إلى الأزهر الشريف ليعتلي منصته، ويخاطب الشعب المصري رافضا الهزيمة، وليخاطب العالم أجمع وليوقظ الضمائر الحية للوقوف مع مصر في وجه هذا العدوان.
وأصدرت الأمم المتحدة قرارها في 1956/11/7 بوقف القتال، ووجه الاتحاد السوفياتي إنذاره الشهير إلى كل من بريطانيا وفرنسا بتهديدهما بضرب لندن وباريس بالصواريخ الأمر الذي ألزم الرئيس الأميركي أيزنهاور بعدم الوقوف مع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في هذا العدوان، وانسحبت القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد في 1956/12/22 وانسحبت إسرائيل من سينا، ثم من غزة في 1957/3/6.
والواقع أن حرب 1956 تعتبر نقطة تحول في تاريخ المنطقة بل في تاريخ العالم، فتصاعدت حركة القومية العربية، وحركة عدم الانحياز، وتمت تصفية المواقع المتبقية من الاستعمار البريطاني والفرنسي.
وللحدث بقية إن كان في العمر بقية.