يعد مفهوم المسؤولية الاجتماعية من المفاهيم الحديثة نسبياً في الأدبيات الاقتصادية والقانونية، فرغم النزعة الإنسانية والتضامنية لبني البشر وممارستهم الموغلة قدماً، فرادى وجماعات، للمسؤولية الاجتماعية في كثير من الميادين بناء على التزام ديني أو عقائدي أو وفقاً لقناعات فطرية أو أخلاقية مختلفة، فقد تأخر التأطير العلمي لهذا المفهوم الى بدايات القرن العشرين، حيث بدأ الفقه المتخصص بالحديث عنها واعتبرته المنظمات الدولية والإقليمية عنصراً رئيساً من عناصر التنمية المستدامة وأدخلته الدول في نصوصها كالتزام دستوري وقانوني.
للمسؤولية الاجتماعية أوجه عديدة، فتبرز أولاً المسؤولية الفردية والتضامنية لكل مكونات المجتمع في التكافل والتآزر من أجل تعميم السلام والرفاهية والرخاء، ومن ثم نذكر ثانياً المسؤولية الاجتماعية للمنظمات الاقتصادية والتجارية- التي تحظى في العقود الأخيرة باهتمام متزايد وتركيز متصاعد- والتي تحت عنوان «الخدمة المجتمعية» تفرض على مؤسسات وشركات القطاع الخاص اتباع نهج تفاعلي شامل ومباشر مع محيطها، فتحصّنها من أي عزلة- مقصودة أو غير مقصودة- تسيء إلى صورتها أو تضر بمصالحها، وتستدعي أن تكون جميع سياساتها وقراراتها وتصرفات العاملين فيها متواءمة مع حاجات مجتمعها ومكونات بيئتها، ومنسجمة مع قيمها ومبادئها، ومستهدفة رفاهيتها.
بعبارة موجزة، تعزز المسؤولية الاجتماعية فكرة المشاركة وتوزيع المهام بين القطاعين العام والأهلي لتحقيق التنمية المستدامة ورفاهية الشعوب، ودون أن نذكر المساهمات الكثيرة- المعلنة وغير المعلنة- للمجتمع الكويتي ومؤسساته الخاصة في المجال الإنساني والمسؤولية الاجتماعية، فإن التجربة الكويتية في هذا السياق كافية للفت أنظار الإعجاب واستدعاء عبارات الثناء، الأمر الذي يعتبر امتداداً طبيعياً للقيم الدينية والموروثات الأخلاقية والفطرة الإنسانية التي جبل عليها هذا الشعب.
وقد كان الدستور الكويتي الصادر عام 1962 متقدّماً في التعبير على اتجاهات وقيم وتطلعات هذا المجتمع المحافظ على أصالة التاريخ والمنخرط في الوقت نفسه بـ «ركب الحضارة الإنسانية»، فكانت ملامح المسؤولية الاجتماعية بنوعيها المشار اليهما واضحة في أحكامه، جلية في سياقه، صائبة في رؤاه ومستهدفاته.
تأكيداً على قيم الشريعة الإسلامية التي اعتبرتها المادة الثانية من الدستور الكويتي مصدراً رئيساً للتشريع، بكل ما تكتنزه الشريعة السمحة من دعوة إلى تعزيز الفطرة الإنسانية والتكافل المجتمعي، ها هي المادة السابعة تؤكد أن «العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع» وأن «التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين»، وها هي المادة التاسعة والعشرون تعلن أن «الناس» جميعاً «سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».
ومن ثم تعددت المواد التي تؤكد على التضامن المجتمعي في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة، بكفالة الدولة التي تتولى تحقيق الأمن الاجتماعي ورعاية مقومات ودعامات المجتمع وتصون حقوق وحريات أفراده، الأمر الذي يتلازم ويتكامل مع منطوق المادة 20 من الوثيقة القانونية الأسمى التي أعلنت أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وذلك كله في حدود القانون».
وفي السياق، سلطت بعض مواد الدستور الكويتي الضوء على حق الفرد في «التملك»، و«العمل» و«تكوين رأس المال» باعتبار ذلك من المقومات الأساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، مقابل تركيز النص الدستوري على الوظيفة الاجتماعية لهذه الحقوق، الأمر الذي يتجلّى وبوضوح في نص المادة السادسة والعشرين التي اعتبرت الوظيفة العامة تكليفاً لا تشريفاً، باعتبارها «خدمة وطنية» يستهدف القائمون عليها تحقيق «المصلحة العامة»، وفي نص المادة الحادية والأربعين التي اعتبرت أن «العمل» ليس مجرد حق للكويتي بل هو «واجب على كل مواطن تقتضيه الكرامة ويستوجبه الخير العام».
من جانب آخر، لا يخفى على أحد أن التكافل الاجتماعي، بكل مسؤولياته وصوره الفردية والجماعية، يشكّل إحدى الركائز الرئيسة «للعدالة الاجتماعية» التي حرصت بعض النصوص الدستورية على ربطها بمقومات الاقتصاد الرئيسة، إذ أوكلت المادة الثانية والعشرون للمشرع مهمة تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وعلاقة ملاك العقارات بمستأجريها على أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية التي اعتبرتها المادة الرابعة والعشرون بدورها أساساً للضرائب والتكاليف العامة.
وعن واجب المؤازرة الرسمية للمسؤولية المجتمعية فقد حرص المشرّع الدستوري في كثير من المواد على التأكيد أنه يقع على عاتق الدولة واجب صيانة دعامات المجتمع وكفالة الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص، الأمر الذي يرتبط بواجبها حماية الأسرة والأمومة والطفولة ورعاية النشء، وكذلك توفير التأمين الاجتماعي للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، وكذلك العناية بالصحة العامة ووسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة، دون أن ننسى واجبها في تشجيع التعاون والادخار وغيرها من المكونات والعناصر اللازمة من جهة لتكريس الرفاهية المستدامة والمحققة لأوجه التضامن الاجتماعي.
خلاصة القول: السياسات الاجتماعية والمسؤوليات المجتمعية تجد ركائزها في أحكام الدستور الكويتي، ولا يقتصر تحقيقها على مجرد الشراكة بين جناحي التنمية التقليديين، وهما الدولة والقطاع الخاص، بل يتسع النطاق لعديد من الشركاء وفي مقدمتهم الأفراد، والأسر، والتجمعات السياسية، وهيئات المجتمع المدني، الذين يعملون جميعاً تحت سقف القانون بمفهومه الشامل.
* كاتب ومستشار قانوني.
للمسؤولية الاجتماعية أوجه عديدة، فتبرز أولاً المسؤولية الفردية والتضامنية لكل مكونات المجتمع في التكافل والتآزر من أجل تعميم السلام والرفاهية والرخاء، ومن ثم نذكر ثانياً المسؤولية الاجتماعية للمنظمات الاقتصادية والتجارية- التي تحظى في العقود الأخيرة باهتمام متزايد وتركيز متصاعد- والتي تحت عنوان «الخدمة المجتمعية» تفرض على مؤسسات وشركات القطاع الخاص اتباع نهج تفاعلي شامل ومباشر مع محيطها، فتحصّنها من أي عزلة- مقصودة أو غير مقصودة- تسيء إلى صورتها أو تضر بمصالحها، وتستدعي أن تكون جميع سياساتها وقراراتها وتصرفات العاملين فيها متواءمة مع حاجات مجتمعها ومكونات بيئتها، ومنسجمة مع قيمها ومبادئها، ومستهدفة رفاهيتها.
بعبارة موجزة، تعزز المسؤولية الاجتماعية فكرة المشاركة وتوزيع المهام بين القطاعين العام والأهلي لتحقيق التنمية المستدامة ورفاهية الشعوب، ودون أن نذكر المساهمات الكثيرة- المعلنة وغير المعلنة- للمجتمع الكويتي ومؤسساته الخاصة في المجال الإنساني والمسؤولية الاجتماعية، فإن التجربة الكويتية في هذا السياق كافية للفت أنظار الإعجاب واستدعاء عبارات الثناء، الأمر الذي يعتبر امتداداً طبيعياً للقيم الدينية والموروثات الأخلاقية والفطرة الإنسانية التي جبل عليها هذا الشعب.
وقد كان الدستور الكويتي الصادر عام 1962 متقدّماً في التعبير على اتجاهات وقيم وتطلعات هذا المجتمع المحافظ على أصالة التاريخ والمنخرط في الوقت نفسه بـ «ركب الحضارة الإنسانية»، فكانت ملامح المسؤولية الاجتماعية بنوعيها المشار اليهما واضحة في أحكامه، جلية في سياقه، صائبة في رؤاه ومستهدفاته.
تأكيداً على قيم الشريعة الإسلامية التي اعتبرتها المادة الثانية من الدستور الكويتي مصدراً رئيساً للتشريع، بكل ما تكتنزه الشريعة السمحة من دعوة إلى تعزيز الفطرة الإنسانية والتكافل المجتمعي، ها هي المادة السابعة تؤكد أن «العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع» وأن «التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين»، وها هي المادة التاسعة والعشرون تعلن أن «الناس» جميعاً «سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».
ومن ثم تعددت المواد التي تؤكد على التضامن المجتمعي في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة، بكفالة الدولة التي تتولى تحقيق الأمن الاجتماعي ورعاية مقومات ودعامات المجتمع وتصون حقوق وحريات أفراده، الأمر الذي يتلازم ويتكامل مع منطوق المادة 20 من الوثيقة القانونية الأسمى التي أعلنت أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وذلك كله في حدود القانون».
وفي السياق، سلطت بعض مواد الدستور الكويتي الضوء على حق الفرد في «التملك»، و«العمل» و«تكوين رأس المال» باعتبار ذلك من المقومات الأساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، مقابل تركيز النص الدستوري على الوظيفة الاجتماعية لهذه الحقوق، الأمر الذي يتجلّى وبوضوح في نص المادة السادسة والعشرين التي اعتبرت الوظيفة العامة تكليفاً لا تشريفاً، باعتبارها «خدمة وطنية» يستهدف القائمون عليها تحقيق «المصلحة العامة»، وفي نص المادة الحادية والأربعين التي اعتبرت أن «العمل» ليس مجرد حق للكويتي بل هو «واجب على كل مواطن تقتضيه الكرامة ويستوجبه الخير العام».
من جانب آخر، لا يخفى على أحد أن التكافل الاجتماعي، بكل مسؤولياته وصوره الفردية والجماعية، يشكّل إحدى الركائز الرئيسة «للعدالة الاجتماعية» التي حرصت بعض النصوص الدستورية على ربطها بمقومات الاقتصاد الرئيسة، إذ أوكلت المادة الثانية والعشرون للمشرع مهمة تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وعلاقة ملاك العقارات بمستأجريها على أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية التي اعتبرتها المادة الرابعة والعشرون بدورها أساساً للضرائب والتكاليف العامة.
وعن واجب المؤازرة الرسمية للمسؤولية المجتمعية فقد حرص المشرّع الدستوري في كثير من المواد على التأكيد أنه يقع على عاتق الدولة واجب صيانة دعامات المجتمع وكفالة الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص، الأمر الذي يرتبط بواجبها حماية الأسرة والأمومة والطفولة ورعاية النشء، وكذلك توفير التأمين الاجتماعي للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، وكذلك العناية بالصحة العامة ووسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة، دون أن ننسى واجبها في تشجيع التعاون والادخار وغيرها من المكونات والعناصر اللازمة من جهة لتكريس الرفاهية المستدامة والمحققة لأوجه التضامن الاجتماعي.
خلاصة القول: السياسات الاجتماعية والمسؤوليات المجتمعية تجد ركائزها في أحكام الدستور الكويتي، ولا يقتصر تحقيقها على مجرد الشراكة بين جناحي التنمية التقليديين، وهما الدولة والقطاع الخاص، بل يتسع النطاق لعديد من الشركاء وفي مقدمتهم الأفراد، والأسر، والتجمعات السياسية، وهيئات المجتمع المدني، الذين يعملون جميعاً تحت سقف القانون بمفهومه الشامل.
* كاتب ومستشار قانوني.