مرت الكويت بثلاث حقب زمنية تشكّلت خلاها هيبة الدولة (وأسرة الحكم) وبناء وترسيخ دولة المؤسسات، الحقبة الأولى بدأت بتولّي الشيخ عبدالله السالم الحكم منذ (1950 وحتى 1965)، واستمر ذلك الزخم القوي في الحقبة الثانية، بالحفاظ على الهيبة واستمرار دولة المؤسسات فترة حكم الشيخ صباح السالم (1965 - 1977)، رغم تعطيل الدستور في نهاية الحقبة!
وكانت الحقبة الثالثة بداية من 1978 وحتى 1986، وكانت هيبة الدولة لا تزال حاضرة وكذلك دولة المؤسسات، رغم التعثُّر والأزمات والتحوّل الإقليمي، التي شهدتها هذه الحقبة، لكنّ معطيات الهيبة والبناء القويم لدولة المؤسسات استمرت وتماسكت، ولُمست آثارها في جوانب أساسية ومحسوسة، لكن منذ عام 1986، بدأت الهيبة تُفقد عن قصد من أطراف داخل النظام وأخرى خارجه.
وجاء الغزو العراقي الغاشم على الكويت، لتصبح البلاد أمام خيار وحيد هو استعادة الهيبة ودولة المؤسسات، وكان التحرك الموحد والواسع وبحسّ وطني رفيع المسؤولية لتحرير الكويت، حافزاً لكل القوى الوطنية، فصارت في بوتقة واحدة مع النظام، وشكلت حركة شعبية ورسمية غير مسبوقة لتحقيق ذلك، فكان مؤتمر جدة لمن هم بالخارج، ورؤية الإصلاح الوطني لمن بالداخل، وشُكلت في فبراير 1991 قوة لتحرير الكويت.
ومنذ التحرير، بدأ توجّه واضح يحاول أن يستلهم الهيبة ودولة المؤسسات لحقبة (1950 - 1977)، وأحد دروس مرحلة تفكيكها (1985 - 1990)، فنشأت حركة عنوانها الجوهري «استعادة هيبة الدولة ودولة المؤسسات»... فما الذي تم في هذه الحقب، التي تنقسم إلى ثلاث حقب زمنية، وما مظاهر كل حقبة منها؟
(الأولى 1992 - 2003)، وكانت البداية إجراء انتخابات مجلس 1992، تجاوباً مع ميثاق جدة ورؤية الإصلاح الوطني والتحوّل بقناعة الحكم بالنظام الديموقراطي، فكانت انتخابات 1992 وتشكيل أول حكومة بمشاركة نيابية واسعة علامة فارقة، لكن كانت هناك هفوات ومبالغات، وأحياناً تكريس شكلي لدولة المؤسسات، والأخطر إضعاف مسار بناء هيبة الدولة.
كانت الانتخابات البرلمانية 1992 رائعة، ونقلة نوعية بتشكيل الحكومة بمشاركة برلمانية واسعة للنظام البرلماني وتطوّره، لكن بدأت مرحلة إضعاف هيبة الحكومة وأسرة الحكم في آن واحد، بسبب أن رئيس الوزراء كان هو نفسه ولي العهد، فبدأت الضغوط، وبدأت ممارسات واسعة في الخروج على ثوابت وطنية ودستورية وأساسيات النظام البرلماني، بل والتدخل البرلماني في عمل الحكومة، وفرض أجندات برلمانية وانتخابية تحت مبررات غير منطقية لا تحقق مصلحة وطنية، ومنها التحركات المشبوهة لإقرار القانون 44 لسنة 1994برلمانياً، وقد كان، فضاعت في ثناياها جهود استعادة الهيبة ودولة المؤسسات، وحملت السنوات اللاحقة منذ 1996 وحتى 2003 نهاية الحقبة الأولى بدخول فئة جديدة من الناخبين المتجنسين، فتراجع البناء المؤسسي واهتزت الهيبة، وهي حقبة فشلت في تحقيق عنوان هذه المرحلة.
أما حقبة 2003 - 2020، فقد مرّت بعدة مسارات، الأول التفاهمات السياسية بوجود رئيس وزراء ليس ولياً للعهد، فتمّ فرض الهيبة، لكن استمر تفكيك دولة المؤسسات، والثاني مسار تفاهمات ومنح فرص للتصحيح الذاتي لمجلس الأمة، والذي فشل بشكل لافت، وحاول أن يجعل الحكومة تبعاً له، بسوء تقدير أعضاء المجلس وهيمنة المكون السياسي غير الناضج الساعي لكسر الهيبة، فعجّل بالمسار الثالث «الصراع وإعادة السيطرة»، وهي المرحلة من 2009 حتى 2020، وكانت لها مزايا استعادة جزء من الهيبة وتحجيم الابتزاز السياسي، لكنّها حقبة تدهورت فيها منظومة دولة المؤسسات، فتشوّه تكوين مجلس الأمة، وخلفت حكومات مهزوزة، وظهرت الملاحقات السياسية.
وجاءت الحقبة الثالثة من 2020 حتى الآن، بتراكمات تفكك دولة المؤسسات وضياع الهيبة واستشراء الفساد البرلماني والمالي، فكان لا بدّ من تصحيح للمسار، فبدأ عهد جديد لحفظ الهيبة واستعادة دولة المؤسسات، وشهدت هذه الحقبة جراحات سياسية إصلاحية بتطهير كشوف الناخبين والحياد السياسي والانتخابي للسلطة، وتأكيد دولة الدستور والمؤسسات من دون السماح بالتفريط في الهيبة، فكان خطاب 22 يونيو 2022 إعلاناً لملامحها، وأعقبته خطوات وإجراءات عملية، وصولاً إلى النطق السامي في 20 ديسمبر 2023، ورسائله التي لم يُنزلها النواب المنزلة اللائقة بها، مغفلين رسالة الحزم في حفظ الهيبة، فخلطت الأوراق واستمرت الممارسات المنحرفة والمزاد البرلماني، فجاء الحزم بأن استعادة الهيبة ودولة المؤسسات صنوان لا مجال للفك بينهما، فحُلّ المجلس، واستمر حزم الهيبة والحرص على تكريس دولة المؤسسات!
البرلمان القادم أمام مرحلة مفصلية! فإمّا أن ينجح مسار الإصلاح الوطني وتنتهي الانتهازية الفردية والابتزاز السياسي، أو تستمر الفوضى والاسترزاق منها، وهدر دولة المؤسسات والهيبة!