«بَعْدَ اطِّلاَعٍ إينَاسٌ» «من صيد الخاطر»
«بَعْدَ اطِّلاَعٍ إينَاسٌ»... هو قول في الجاهلية أطلقه قَيْس بن زُهَير فأصبح مثلاً، وذلك حين نقل له حذيفة بن بدر خبر يوم داحِسٍ قائلاً: «سبقتُكَ يا قيس»، فقال قيس: «بَعْدَ اطِّلاَعٍ إينَاسٌ»، وقد عنى هنا: أنني لن أصدق الخبر حتى أتأكد منه، وهو مَثَل يطلقه من يريد أن يتثبّت من حقيقة ما سمع، وقيل في ذلك:
بها اطّلعت فعداني الياس
بعد اطّلاع يحسُن الإيناس
ويُقصد به هنا، أنه قد تخطاني اليأس بعد أن اطّلعت على الحقيقة، فبوجود الحقيقة ومعرفتها زادت الطمأنينة.
فمغزى هذا المثل هو ألا نصدّق كل ما نسمع، ولا ننقل كل ما يُقال، حتى نتثبّت ونتيقن مما حصل ونأنس له، وقد قال الله تبارك وتعالى في ذلك: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».
وقد نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن نقل كل ما يُسمع، فقال في ذلك: «كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سَمع»، وقال الإمام مالك: اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سَمع دون تثبّت، لأنه سيسمع الصدق والكذب.
أما مثلُنا فوراءه قصة، فلا بدّ أن معظمنا قد سمع بحرب داحس والغبراء، وهما اسما حصانين كلاهما لا يُشقّ لهما غُبار، فـ «داحس» اسم لأحد خيول قيس بن زهير العبسي تنافسه فرس اسمها الغبراء، وهي لحذيفة بن بدر الذبياني الغطفاني، وهما من دار حولهما مثَلُنا «بَعْدَ اطِّلاَعٍ إينَاسٌ»، وذلك بعد أن نشب بينهما خلاف على من يقوم بحراسة قوافل النعمان بن المنذر، فاتفقا، قيس وحذيفة، على إقامة سباق بين داحس والغبراء، على أن تكون الحراسة للفائز منهما.
كانت مسافة السباق طويلة، فهي تستغرق عدة أيام تقطع فيها الفيافي، وهي الصحارى الشاسعة، والقفار، وهي الأرض الخالية من الزرع والماء والبشر، فأُوُعِزَ لنفر من ذبيان بأن يختبئوا في تلك الشعاب، قائلين لهم: إذا وجدتم داحس متقدماً على الغبراء فردّوا وجهه كي تسبقه الغبراء، وهذا ما فعلوه فتقدمت الغبراء، وعندها قال حذيفة قولته: «سبقتُكَ يا قيس».
إلّا أن الأمر لم ينته عند هذا الفوز، فما إن تكشّفت حقيقة ما قام به حذيفة من خديعة حتى نشبت المعركة المشهورة بحرب داحس والغبراء، بين عبس وذبيان، والتي دامت أربعين عاماً.