وجهة نظر: التخصص السياسي ضروري
تعودنا أن النائب البرلماني يقرأ ويكتب فقط، والوزير عسكري سابق أو كيميائي أو علم نفس، ورئيس الوزراء غير متخصص بالسياسة أيضاً، ولأن كل المناصب المذكورة هي مناصب سياسية قبل أن تكون إدارية فإن تخصص العلوم السياسية أو الاقتصاد ربما يجب أن يكون مطلباً إجبارياً لتبوئها، ولو تخصص السياسيون تعليمياً لما تحوت تلك المناصب من قيادية يديرها قياديون إلى إدارية يديرها موظفون برواتب ومخصصات مرتفعة.
فقد أثبت التاريخ الحديث أن مسألة عدم تخصص السياسي تعليمياً تسبب هدراً واضحاً لمصالح البلاد والعباد وضياعا للإنجاز ومضيعة لأعمار الدول، إذ لم يحقق أي سياسي غير متخصص نجاحاً يذكر عبر التاريخ الحديث لأي دولة بحسب اطلاعي المتواضع، وحتى قبل التاريخ الحديث فإن نجاح السياسي كان قائماً على أخطاء الآخرين في زمن غاب فيه التخصص عن الجميع فتساووا جميعاً في مجال التعليم، وأصبح الفارق بين المتنافسين قائماً على الخبرات والمهارات ودرجة الذكاء فقط.
ولأن (سالفة) يقرأ ويكتب قد تجاوزها الزمن، بل تجاوز حتى المتوسطة والثانوية وربما الدبلوم، فإن تعديل اللوائح والقوانين والإجراءات وكل النصوص التي تمتهن القيمة الكبيرة للمناصب السياسية وتصوغها بطريقة يمكن من خلالها اختراق غير المتعلمين لمناصب تحتاج إلى شهادات متخصصة أصبح ضرورياً.
وقد شاهدت (فيديو) ذات مرة لاجتماع إحدى لجان مجلس الأمة قبل سنوات جمعت نائباً دكتورا من العيار الثقيل، جلس وكان جاره في اجتماع اللجنة نائباً من نوع يقرأ ويكتب، فاستغربت كيف يمكن لهذين النائبين أن يتفاهما حول موضوع أو مشروع يحتاج إلى درجة كبيرة من التعليم والتعلم.
وقد يكون بعض ذوي (يقرأ ويكتب) قد اكتسبوا خبرات سياسية كبيرة من خلال نجاحهم في الفوز بعضوية مجلس الأمة لدورات متعددة، حتى أصبحوا قادرين على أن يقوموا بعملهم بالأمانة والصدق اللتين أقسموا عليهما، لكن ذلك لا يعفيهم
من أنهم اكتسبوا خبراتهم على حساب وقت المجلس ومصالح الشعب وأمواله، وتعلموا في جسد المريض حتى صاروا أطباء حاذقين.
ورغم أن اكتساب الخبرات والمهارات السياسية لا يرتبط بالتعليم بل بالممارسة، فإن الشهادة المتخصصة تساعد في سرعة التعلم والقدرة على فرز المواقف والقضايا بشكل علمي يتميز بالجودة الكمية والكيفية والدقة المناسبة، ولنا صديق من المعتزلين سياسياً، وهو من حملة الدكتوراه وقد عمل لسنوات طويلة في أروقة مجلس الأمة حتى صار سياسياً كبيراً من (الصوبين) تعليماً وتعلماً، وقد تعودنا أن يطرح رأياً من العيار الثقيل في الصباح الباكر يسبقه مصطلح (من باب تنشيط الدورة الدموية)، وبعد أن يسخن النقاش في القروب يهرب منه قائلاً أنا معتزل السياسة فيترك نزاع القوم على أشده لا يقطعه أحد.
ولأني أتمنى ألا يعتزل هذا الصديق السياسة، وأتمنى أن يعتزلها بعض الذين يسمونهم سياسيين، فإني أجد أنه أصبح من الضرورة عودة السياسيين الكبار ممن اعتزلوا السياسة فعلاً لا على طريقة صديقنا، لأن الساحة السياسية تعج بالفوضى حالياً، إلى درجة أن الانحدار وصل لمرحلة جعل احتراف الكذب في نظر البعض سياسة، وهو في الحقيقة عكس السياسة تماماً، إذ ثبت من خلال التجارب لا من خلال حكمة الأولين فقط أن حبل الكذب قصير، وأن الشمس لا بد أن تطلع على الحرامي، والعجيب أن حبل الكذب أصبح أكثر من قصير، والشمس صارت تطلع على الحرامي (بسرعة).