«من هنا نبحر»... خريطة طريق لإصلاح التعليم بالكويت (2-5)
المبادرة اعتبرت لحظة إغلاق المدارس في نهايات فبراير 2020 إثر جائحة كوفيد19 «سنة طَبْعة»
في النظام البيئي لا تعدُّ الكوارث الطبيعية اختلالاً لنظام يؤدي إلى الدمار والهدم، فللكوارث وجهٌ جميلٌ لا تستطيع رؤيته عيون الكائنات التي لا ترى أبعد من أنفها، ولا تنشغل بغير قوت يومها، فكثير مما نسميه كوارث هو في حقيقته إعادة للتوازن المختل في البيئة الطبيعية، ولنا في البراكين خير شاهد، فما تنفثه من أدخنة ورماد يسهم في خفض درجات الحرارة في الأرض، وما يسيل منها من حممٍ تحرق الأخضر واليابس ينتج عنه أرضٌ خصبة تخلق مجالاً حيوياً للكائنات، كما أن التقاء تلك الحمم بمياه البحر يُوسِّعُ مساحة الأرض، خالقة بذلك مجالاً رحباً لنمو حياةٍ جديدة. نعم إنها كارثة مدمرة، وخسائرها فادحة، وضحاياها كثر، لكن لها وجهاً آخر لا ينبغي أن نهمله، وجهاً يجعلها نعمة في صورة النقمة، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه في تعليمنا، وما ينبغي أن يحدث في تربيتنا، وما هذا الاستدعاء للكارثة سوى أملٍ وحيدٍ تبقَّى بعد خيباتٍ راكمتها محاولات إصلاح التعليم في بلدنا الصغير الغني، حتى بات أكثر المهتمين بالشأن التربوي متشائمين من نجاعة أيِّ مشروعٍ جديدٍ يُطرح تحت عنوان الإصلاح. وتذكرني غرابة هذه الفكرة بما اعتراني من غرابة حين وقفت أمام متحف العلم والفن في سنغافورة، فقد خُطَّت على المدخل عبارةٌ لرئيس غرفة التجارة والصناعة السنغافورية، وليس هذا بغريب، فسنغافورة وضعت نفسها على الخريطة بما أنشأته من بنية تجارية وصناعية صلبة عوَّضت هذا البلد الصغير عمَّا يفقده من موارد طبيعية، لذا ليس غريباً أن يكون رئيس تلك الغرفة من الشخصيات التي يُخَطُّ قولها أمام متحف علمي فني ذي طبيعة تربوية، بل الغريب أن صاحب العبارة لم يعرَّف بمنصبه الوظيفي، بل عُرِّف بشغفه الجمالي، فشُفِعَ اسمه بلقب «شاعر»، ليكون الخيال الخلاق للشاعر أوَّل ما يرحب بزائر متحف العلم والفن، وما العلم والفن سوى أبناء شرعيين للخيال المحلِّق المتمرّد على بؤس الواقع وجموده، ومن هذا المنطلق أسِّس قسمٌ في المتحف عُنْوِن بـ «عالم المستقبل: عندما يلتقي الفن بالعلم»، وفيه يخوض الأطفال تجربة تشكيل المستقبل وفق خيالٍ تتحداه المشكلات لوضع خطط يواجهون بها التبعات، ويتهيَّؤون بها للإسهام في خلق ظروف حياتهم بدلاً من أن يكونوا مجرَّد منفعلين بها. وبين التجربة الكويتية والتجربة السنغافورية أجد نفسي أمام سؤال عن اليأس الذي يعتريني حتى أستدعي كارثة ترحمنا من تعليمنا، وقد أفضى بي التفكير بيأسي إلى ماضٍ قريبٍ عايشته وأود مشاركته معكم لعل فيه ما يبرر غرابة ما افتتحت به الدراسة... وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية:
«الكارثة» كلمة شديدة الوطأة في النفس، فهي تستدعي مشاهد الدمار والهدم والخراب، تستدعي النار تأكل بانتشارها ما أثمرته الطبيعة وبناه الإنسان، تستدعي الماء وهو يطغى على الحدود الفاصلة بينه وبين الأرض، تستدعي جبالاً تهوي، وأرضاً تنشق، وأشجاراً تُقْلَع، ونفوساً تُزهَق، هكذا يتصور أكثرنا معنى كلمة كارثة.
لكن الكارثة جاءتنا في صورةٍ مختلفة، لم تكن من زلزالٍ ينفض الأرض ومَن عليها، ولا من بركانٍ يذيب الحجر قبل الشجر، ولا من طوفان تسير على مناكبه البيوت والسيارات، لم تكن كارثتنا المنشودة متوقعة، فقد جاءتنا من حيث لا نحتسب، جاءت من كائن متناهي الصغر يقع بين الحياة والموت، فهو في الطبيعة خاملٌ جامد لا ينفع ولا يضر، فإذا وجد سبيله إلى الأجسام الحيّة دبَّت فيه الحياة، فإذا به وحشٌ شرسٌ لم تروِّضه بعدُ عقاقيرنا ولا تطعيماتنا، وهو لا يخلِّف دماراً كالذي تخلّفه الكوارث سابقة الذكر، بل خلَّف وحشة تدبُّ في الطرقات والأسواق والمدارس والجامعات ومكاتب الجهات الحكومية وغير الحكومية، ولم يمنعنا غياب مشاهد الدمار من عدِّ فيروس كوفيد 19 كارثة، لأنّه شلَّ حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وقديماً قيل إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، وحديثا عرِّفَ الإنسان بأنه كائن اقتصادي بطبعه، فإذا شُلَّت الحياتان الاجتماعية والإنسانية، فإن الإنسان يفقد ما عُرِّفَ به قديماً وحديثاً، وكذلك فَقَدَ الإنسان التعريف الذي قد يميل إليه بعض التربويين القاضي بأن الإنسان كائن متعلِّمٌ بطبعه، فقد أُقفِلت المدارس والمعاهد والجامعات، وتوقَّف التعليم في أكثر بلاد الله وقفة قصيرة، لكن تلك البلاد استأنفت التعليم بصورةٍ أو بأخرى
من هنا نبحر
إذاً حلَّت الكارثة المنشودة التي تحدثنا عنها سابقا، الكارثة التي كنّا نأمل أن تنقذ تعليمنا من سلطة الأدراج، وسلطة الفوضى، وسلطة الجهل، بعد أن فشلت كل مشاريع الإصلاح المقدَّمة في الخروج من ظلمة الدرج الذي أُحِيلَت إليه كل تلك المشاريع بعد الدراسة، ووضع الحلول والرؤى التربوية بعد الدراسة، فهل حققت الجائحة ما كنّا نرجوه منها؟ هل كان لها وجهٌ جميل تحت قناعها القبيح؟ هل استفدنا من النعمة الكامنة في تلك النقمة؟ هذا ما حاولت مبادرة «من هنا نبحر... خريطة طريق لإصلاح التعليم في الكويت» الإجابة عنه في شقِّها الوصفي، وقد صدرت أخيرا في كتاب تولّت نشره مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وكم تمنيت أن المؤلفين اطلعوا على مشروع «المسؤولية التضامنية في النظام التربوي الكويتي» المذكور سابقا، لأنّ فيه ما يكفيهم مؤونة التكرار في باب التوصيات وأكثر.
وكل هذه التخبطات التي امتازت بها سنة «الطَّبْعة» لم تكن وليدة ظرفٍ طارئ فرض نفسه على صانعي القرار التربوي، بل كانت امتدادات لواقع التعليم المتردي قبل حلول الكارثة، لذا يمَّمَ مؤلفو المبادرة شطر الواقع قبل سنة «الطَّبْعة»، فاستعرضوا كيف نافست الكويت على احتلال المركز الأخير في الاختبارات والمؤشرات الدولية، مثل اختبار تيمز في مجالَي العلوم الرياضيات، واختبار القراءة والكتابة الدولي (بيرلس)، ومؤشِّر فقر التعليم، و «تقرير التعليم الشامل للجميع»، الذي أظهر أن منحنى تدني درجات طلاب الكويت في العلوم والرياضيات يهوي في سقوطٍ حرٍّ مقارنة ببقية الدول، واستعرضت مقارنة مهمة بين دول العالم من حيث سنوات الدراسة الفعلية، فكانت النتيجة أن الكويت من بين أقل دول العالم في عدد سنوات الدراسة الفعلية بواقع 6 سنوات فقط، بينما تحتل كوريا الجنوبية المركز الأول بواقع 15 سنة، وهذا ما يكشف حجم التخلف الذي نعانيه قبل الجائحة، فكيف بتخلفنا التعليمي بعد سنة «الطَّبْعة»؟
وقد خُتِمَ هذا المحور بتوصية ذات أهمية قصوى، تقضي بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات المعنية بالملف التربوي، فليس من المنطقي أن تتجمع مهام التخطيط والتنفيذ والتقييم في جهة واحدة ممثلة بوزارة التربية، لأنّ في ذلك تضاربا للمصالح يُفضي إلى إخفاء العيوب وستر الخلل، لذا يوصي المؤلفون بتوزيع المهام على جهات ثلاث؛ فيتولى المجلس الأعلى للتعليم مهام التخطيط التربوي ورسم الاستراتيجيات، وتضطلع وزارة التربية بتنفيذ تلك الخطط، ثم يأتي دور الجهاز الوطني للاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم، ليراقب عمل الوزارة ويقيس مدى كفاءتها في تنفيذ الخطط، وبذلك نقضي على التخبطات ونعالج العمى التربوي الذي نعانيه.
المعلم ربان العملية التربوية
ثم تطرّق الكتاب إلى محور المعلم وما يرتبط به من مشكلات كان أولها مشكلة خروج المعلمين ذوي الكفاءة العالية من الفصول الدراسية إلى المكاتب الإدارية والإشرافية بفعل الخلل في مسارات الترقّي، فالمعلم تنحسر علاقته بالفصول الدراسية منذ لحظة ترقّيه لمنصب رئيس القسم، ثم تنعدم تلك العلاقة في مسارَي الترقي الإداري والفني، ولا يخفى مدى الضرر الذي يعود على الطلاب نتيجة ابتعاد أصحاب الخبرات التربوية والتعليمية عن تعليمهم.
أما في موضوع العدالة، فقد رصد المؤلفون اختلالا عظيما في توزيع الأنصبة والأعباء بين معلمي المواد المختلفة، وما زلت لا أفهم كيف يتساوى معلم اللغة العربية ذو النصاب البالغ 6 حصص في الأسبوع في الصف الواحد، مع معلم التربية البدنية ذي النصاب الذي لا يتجاوز حصتين في الصف الواحد، علما بأن نصاب معلم العربية يبلغ في المتوسط 12 حصة، نظرا لتدريسه صفّين على الأقل، كما أن معلم «العربية» منكوبٌ بأعباء تدريسية مضنية، ومطالب بمتابعة أعمال المُتعلمين الكتابية، وتصحيح اختباراتهم القصيرة والفصلية والنهائية، ومع ذلك يتساوى المعلِّمان في الرواتب، مما يشجع على هجرة التخصصات العلمية ذات الأنصبة العالية والأعباء التعليمية الثقيلة، إلى التخصصات ذات الأنصبة المنخفضة والأعباء التعليمية شبه المعدومة، وقد عرض الكتاب إحصاءات مخيفة (ص74 - 75) تظهر البون الشاسع بين التخصصات العلمية المقاسة في المؤشرات والاختبارات الدولية وبين التخصصات غير الداخلة في تلك المؤشرات كالتربية الإسلامية والبدنية والفنية، فهل من المعقول أن نجد عدد المعلمين الكويتيين في مواد العلوم لا يتجاز 38 معلما، مقابل 600 معلم لمادة التربية البدنية مثلا؟!
لا أقول ذلك من باب تهوين أثر تلك المواد وأهميتها في تكوين شخصية الطالب، فالتربية البدنية - على سبيل المثال - من المواد المعوَّل عليها في معالجة كثير من المشكلات كالعنف والسمنة وأمراض المجتمع الكويتي كالسكّري وارتفاع الضغط، لكنَّ واقع هذه المادة في الميدان يكشف عن انعدام الجدية في التعامل معها، فلا نجد تدريبا حقيقيا على المهارات الرياضية، ولا توعية فاعلة بجوانب الثقافة الصحية، ولا نجد تعاملا جادّا مع مشكلة السمنة المتفشية بين الطلاب، لذا علينا أن نسأل: ألهذا العدد المرتفع من معلمي هذه المادة أي دور في إحداث تغيير واقعي في الطلاب، أم أن القضية لا تتجاوز رفع نسبة البطالة المقنّعة في سوق العمل؟!
ولا يقتصر ذلك على مدارس التعليم العام، ففي كليات إعداد المعلمين (كلية التربية وكلية التربية الأساسية) تخمة في عدد أعضاء هيئة التدريس من ذوي التخصصات التي لا تتعلق بالمواد الأساسية، مع أن عدد المقررات التي يدرسها طلاب تلك التخصصات قليل، لذا يضطر أصاحب تلك التخصصات إلى تدريس مواد عامة لا تتعلق بتخصصاتهم الدقيقة إكمالا لأنصبتهم المفروضة، وفي مقابل ذلك نجد شحّا في أعداد المتخصصين في إعداد معلمي المواد الأساسية، وهذا ليس سوى مظهر من مظاهر التخبّط وانعدام التخطيط في تلك الكليات المسؤولة عن إعداد معلمي المستقبل.
وفي نهاية محور المعلم، تطالعنا توصية جوهرية تتمثل في قانون «تمهين التعليم»، وهذا يستدعي تفاعلا جادا من السلطة التشريعية في البلاد، لإصدار مثل هذا القانون في صورة تمكّننا من فرز المعلمين الحقيقيين عن غيرهم ممن اضطرتهم الظروف الاجتماعية أو المالية للعمل في مهنة لا يعشقونها ولا يجدون أنفسهم في ممارستها، وفي ذلك حدٌّ من النظرة الدونية لكلية التربية التي باتت ملاذا أخيرا لكل طالب يفشل في التخصصات العلمية، أو لكل طالبة تُجبَر على دخولها لأسباب اجتماعية لا تخفى على القارئ الكريم، لذا فإنّ قانون «تمهين التعليم» خطوة رئيسة في الحد من إقبال ضعيفي الكفاءة على مهنة التعليم بسبب الحوافز المادية المرتفعة التي نتجت عن قانون كادر المعلمين المشوّه.
العلوم الإنسانية والتربية المَتْحَفِيَّة
بعد استطراد إلى رحلتنا البحرية، وصلنا إلى ميناء جديد توقّف عنده مؤلفو المبادرة، نقف عند واقع العلوم الإنسانية التي تعاني إهمالًا لا حاجة إلى الإطناب في وصفه، وقد شرح الكتاب ما لهذه العلوم من قدرة على تطوير التفكير النقدي، وفهم المجتمع، ومخاطبة الجمهور، وإحداث نقلة نوعية في التعبير عن الذات، هذا إضافة إلى ضبط الذات وبناء الشخصية المتوازنة ذات القيم الراسخة، واستعرض المؤلفون دراسات تؤكد أهمية العلوم الإنسانية في سوق العمل، مما ينقض الصورة النمطية السائدة عن تلك العلوم التي لا يحتاجها سوق العمل.
وتحت هذا المحور، تطرّق الكتاب إلى التربية المَتْحَفِيَّة اللازمة لتعزيز مهارات الاستكشاف والملاحظة والتفكير الناقد والتأمل والحوار، وأُكِّدَت أهمية المتاحف في توسيع فهمنا للثقافات الإنسانية المختلفة، وفهم وجوه الاتفاق والتعارض فيما بينها، وهذا جانب مهمل عندنا في الكويت التي تزخر بمتاحف متنوعة رسمية وأهلية، فمناهجنا لا تتضمن ما يستدعي زيارة تلك المتاحف، والأمر في ذلك موقوف على رغبة بعض المعلمين من أصحاب الوعي بدور تلك المتاحف في تعلّم طلابهم، كما أن كثيرًا من تلك الزيارات المدرسية لا تعدو أن تكون نشاطات شكلية غير مخطط لها بصورة تضمن تحقيق خبرات عميقة لدى الطلاب، وتحضرني عند الحديث عن ذلك تجربة إحدى طالباتي مع أطفال مرحلة الرياض، فقد اصطحبت المعلمة فاطمة الدندن طلابها إلى متحف بيت العثمان لتعليمهم خبرة «بلدي الكويت»، وتعريفهم بجوانب من تاريخنا، فكان لهذه التجربة أثر عميق في تحقيق أهداف تلك الخبرة، ولم تغفل المبادرة دور الأنشطة المدرسية في تعلّم الطلاب وإكسابهم خبرات واسعة تدعم تعلُّمهم، وتطرّقت أيضا للتربية الكشفية والرياضية ودورها في بناء الشخصية، ولا يخفى على أحد أن مثل هذه الأنشطة تُمارس في الميدان التربوي ممارسة شكلية خالية من الروح، غير مربوطة بأهداف التعلم.
* أ. د. علي عاشور الجعفر
أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت
لكن الكارثة جاءتنا في صورةٍ مختلفة، لم تكن من زلزالٍ ينفض الأرض ومَن عليها، ولا من بركانٍ يذيب الحجر قبل الشجر، ولا من طوفان تسير على مناكبه البيوت والسيارات، لم تكن كارثتنا المنشودة متوقعة، فقد جاءتنا من حيث لا نحتسب، جاءت من كائن متناهي الصغر يقع بين الحياة والموت، فهو في الطبيعة خاملٌ جامد لا ينفع ولا يضر، فإذا وجد سبيله إلى الأجسام الحيّة دبَّت فيه الحياة، فإذا به وحشٌ شرسٌ لم تروِّضه بعدُ عقاقيرنا ولا تطعيماتنا، وهو لا يخلِّف دماراً كالذي تخلّفه الكوارث سابقة الذكر، بل خلَّف وحشة تدبُّ في الطرقات والأسواق والمدارس والجامعات ومكاتب الجهات الحكومية وغير الحكومية، ولم يمنعنا غياب مشاهد الدمار من عدِّ فيروس كوفيد 19 كارثة، لأنّه شلَّ حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وقديماً قيل إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، وحديثا عرِّفَ الإنسان بأنه كائن اقتصادي بطبعه، فإذا شُلَّت الحياتان الاجتماعية والإنسانية، فإن الإنسان يفقد ما عُرِّفَ به قديماً وحديثاً، وكذلك فَقَدَ الإنسان التعريف الذي قد يميل إليه بعض التربويين القاضي بأن الإنسان كائن متعلِّمٌ بطبعه، فقد أُقفِلت المدارس والمعاهد والجامعات، وتوقَّف التعليم في أكثر بلاد الله وقفة قصيرة، لكن تلك البلاد استأنفت التعليم بصورةٍ أو بأخرى
من هنا نبحر
إذاً حلَّت الكارثة المنشودة التي تحدثنا عنها سابقا، الكارثة التي كنّا نأمل أن تنقذ تعليمنا من سلطة الأدراج، وسلطة الفوضى، وسلطة الجهل، بعد أن فشلت كل مشاريع الإصلاح المقدَّمة في الخروج من ظلمة الدرج الذي أُحِيلَت إليه كل تلك المشاريع بعد الدراسة، ووضع الحلول والرؤى التربوية بعد الدراسة، فهل حققت الجائحة ما كنّا نرجوه منها؟ هل كان لها وجهٌ جميل تحت قناعها القبيح؟ هل استفدنا من النعمة الكامنة في تلك النقمة؟ هذا ما حاولت مبادرة «من هنا نبحر... خريطة طريق لإصلاح التعليم في الكويت» الإجابة عنه في شقِّها الوصفي، وقد صدرت أخيرا في كتاب تولّت نشره مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وكم تمنيت أن المؤلفين اطلعوا على مشروع «المسؤولية التضامنية في النظام التربوي الكويتي» المذكور سابقا، لأنّ فيه ما يكفيهم مؤونة التكرار في باب التوصيات وأكثر.
كُتِبَت المبادرة في استعارة ممتدة، شُبِّهَ فيها النظام التعليمي بالسفينة، وبدأت بما أسمته «سنة الطَّبْعة» مستحضرة في الذهن عام 1871م حين أغرق إعصار كثيرا من السفن الكويتية المبحرة بين الهند ومسقط، أما سنة «طَبْعة» التعليم فقد أُرِّخَت بلحظة إغلاق المدارس في نهايات فبراير 2020 إثر جائحة كوفيد 19، ولم تكن الكويت منفردة في اتخاذ هذا القرار، فأكثر دول العالم فعلت فعلها، لكنّ الكويت تفردت عن العالم بأنها أوقفت المدارس والتعليم في الوقت نفسه، بينما استمر التعليم في سائر الدول من دون توقف، وهذا أول ملمح من ملامح الوجه الكئيب للجائحة، وهو من أطول الملامح حضورا، لأن قرار إغلاق المدارس وإيقاف التعليم دام 7 أشهر، وخلال تلك المدة ظهر التخبط في صناعة القرار التربوي على مستوى التعليم العام، ولفَّ عمليات التخطيط التربوي ضبابٌ كثيفٌ من الغموض، وجار المسؤولون بترددهم وعجزهم على فئات الطلاب كافة، وعلى الأخص الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولم يكُ في حلكة الليل التربوي بصيص نور سوى بعض المبادرات الفردية والجماعية لمعلمين ومعلمات آمنوا بالمسؤولية التضامنية الشعبية، فقدَّموا تجارب تعليمية حاولت إيقاف التردي الناتج عن الإيقاف.«من هنا نبحر...» رصدت مشكلة خروج المعلمين الأكفاء من الفصول إلى المكاتب الإدارية طلباً للترقي
المبادرة لم تغفل دور الأنشطة المدرسية في إكساب الطلاب خبرات واسعة تدعم تعلُّمهم
وكل هذه التخبطات التي امتازت بها سنة «الطَّبْعة» لم تكن وليدة ظرفٍ طارئ فرض نفسه على صانعي القرار التربوي، بل كانت امتدادات لواقع التعليم المتردي قبل حلول الكارثة، لذا يمَّمَ مؤلفو المبادرة شطر الواقع قبل سنة «الطَّبْعة»، فاستعرضوا كيف نافست الكويت على احتلال المركز الأخير في الاختبارات والمؤشرات الدولية، مثل اختبار تيمز في مجالَي العلوم الرياضيات، واختبار القراءة والكتابة الدولي (بيرلس)، ومؤشِّر فقر التعليم، و «تقرير التعليم الشامل للجميع»، الذي أظهر أن منحنى تدني درجات طلاب الكويت في العلوم والرياضيات يهوي في سقوطٍ حرٍّ مقارنة ببقية الدول، واستعرضت مقارنة مهمة بين دول العالم من حيث سنوات الدراسة الفعلية، فكانت النتيجة أن الكويت من بين أقل دول العالم في عدد سنوات الدراسة الفعلية بواقع 6 سنوات فقط، بينما تحتل كوريا الجنوبية المركز الأول بواقع 15 سنة، وهذا ما يكشف حجم التخلف الذي نعانيه قبل الجائحة، فكيف بتخلفنا التعليمي بعد سنة «الطَّبْعة»؟
إن هذا التردي الواضح لا يمكن إلّا أن يكون نتيجة لأحد عاملين أو لكليهما، فإمّا أن يكون الإخفاق في رؤية التعليم وفلسفته التي استعير لها في المبادرة «نجم الشمال» الذي يهتدي به البحارة في ظلمات البحر، أو أن يكون الخلل في تطبيق تلك الرؤية إن وجدت، لذا استعرضت المبادرة الخطط والاستراتيجيات الرسمية الصادرة عن وزارتَي التخطيط والتربية منذ عام 1985م، مبيِّنة الفشل الذريع في تطبيق تلك الخطط والرؤى والاستراتيجيات؛ إما بتجاهل تطبيقها أو بإصدار أوامر مباشرة بإيقافها، وإمعانا في وصف العمى التربوي؛ تقارن المبادرة بين رؤية التعليم عام 1955م التي نجحت في تحقيق كثير من أهدافها وإن فشلت في بعضها، وبين رؤية الكويت 2035 التي ما زلنا نتخبط في تطبيق بعض خطوطها العامة حول التعليم، حتى باتت سفينة التعليم تبحر بلا «نوخذة» يقودها، ولا وجهة مقصودة تتوجه إليها (سَمَّاري).• كل التخبطات التي امتازت بها سنة «الطَّبْعة» لم تكن وليدة ظرف طارئ
• مؤلفو المبادرة رصدوا اختلالاً عظيماً في توزيع الأنصبة والأعباء بين معلمي المواد المختلفة
وقد خُتِمَ هذا المحور بتوصية ذات أهمية قصوى، تقضي بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات المعنية بالملف التربوي، فليس من المنطقي أن تتجمع مهام التخطيط والتنفيذ والتقييم في جهة واحدة ممثلة بوزارة التربية، لأنّ في ذلك تضاربا للمصالح يُفضي إلى إخفاء العيوب وستر الخلل، لذا يوصي المؤلفون بتوزيع المهام على جهات ثلاث؛ فيتولى المجلس الأعلى للتعليم مهام التخطيط التربوي ورسم الاستراتيجيات، وتضطلع وزارة التربية بتنفيذ تلك الخطط، ثم يأتي دور الجهاز الوطني للاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم، ليراقب عمل الوزارة ويقيس مدى كفاءتها في تنفيذ الخطط، وبذلك نقضي على التخبطات ونعالج العمى التربوي الذي نعانيه.
المعلم ربان العملية التربوية
ثم تطرّق الكتاب إلى محور المعلم وما يرتبط به من مشكلات كان أولها مشكلة خروج المعلمين ذوي الكفاءة العالية من الفصول الدراسية إلى المكاتب الإدارية والإشرافية بفعل الخلل في مسارات الترقّي، فالمعلم تنحسر علاقته بالفصول الدراسية منذ لحظة ترقّيه لمنصب رئيس القسم، ثم تنعدم تلك العلاقة في مسارَي الترقي الإداري والفني، ولا يخفى مدى الضرر الذي يعود على الطلاب نتيجة ابتعاد أصحاب الخبرات التربوية والتعليمية عن تعليمهم.
أما في موضوع العدالة، فقد رصد المؤلفون اختلالا عظيما في توزيع الأنصبة والأعباء بين معلمي المواد المختلفة، وما زلت لا أفهم كيف يتساوى معلم اللغة العربية ذو النصاب البالغ 6 حصص في الأسبوع في الصف الواحد، مع معلم التربية البدنية ذي النصاب الذي لا يتجاوز حصتين في الصف الواحد، علما بأن نصاب معلم العربية يبلغ في المتوسط 12 حصة، نظرا لتدريسه صفّين على الأقل، كما أن معلم «العربية» منكوبٌ بأعباء تدريسية مضنية، ومطالب بمتابعة أعمال المُتعلمين الكتابية، وتصحيح اختباراتهم القصيرة والفصلية والنهائية، ومع ذلك يتساوى المعلِّمان في الرواتب، مما يشجع على هجرة التخصصات العلمية ذات الأنصبة العالية والأعباء التعليمية الثقيلة، إلى التخصصات ذات الأنصبة المنخفضة والأعباء التعليمية شبه المعدومة، وقد عرض الكتاب إحصاءات مخيفة (ص74 - 75) تظهر البون الشاسع بين التخصصات العلمية المقاسة في المؤشرات والاختبارات الدولية وبين التخصصات غير الداخلة في تلك المؤشرات كالتربية الإسلامية والبدنية والفنية، فهل من المعقول أن نجد عدد المعلمين الكويتيين في مواد العلوم لا يتجاز 38 معلما، مقابل 600 معلم لمادة التربية البدنية مثلا؟!
لا أقول ذلك من باب تهوين أثر تلك المواد وأهميتها في تكوين شخصية الطالب، فالتربية البدنية - على سبيل المثال - من المواد المعوَّل عليها في معالجة كثير من المشكلات كالعنف والسمنة وأمراض المجتمع الكويتي كالسكّري وارتفاع الضغط، لكنَّ واقع هذه المادة في الميدان يكشف عن انعدام الجدية في التعامل معها، فلا نجد تدريبا حقيقيا على المهارات الرياضية، ولا توعية فاعلة بجوانب الثقافة الصحية، ولا نجد تعاملا جادّا مع مشكلة السمنة المتفشية بين الطلاب، لذا علينا أن نسأل: ألهذا العدد المرتفع من معلمي هذه المادة أي دور في إحداث تغيير واقعي في الطلاب، أم أن القضية لا تتجاوز رفع نسبة البطالة المقنّعة في سوق العمل؟!
ولا يقتصر ذلك على مدارس التعليم العام، ففي كليات إعداد المعلمين (كلية التربية وكلية التربية الأساسية) تخمة في عدد أعضاء هيئة التدريس من ذوي التخصصات التي لا تتعلق بالمواد الأساسية، مع أن عدد المقررات التي يدرسها طلاب تلك التخصصات قليل، لذا يضطر أصاحب تلك التخصصات إلى تدريس مواد عامة لا تتعلق بتخصصاتهم الدقيقة إكمالا لأنصبتهم المفروضة، وفي مقابل ذلك نجد شحّا في أعداد المتخصصين في إعداد معلمي المواد الأساسية، وهذا ليس سوى مظهر من مظاهر التخبّط وانعدام التخطيط في تلك الكليات المسؤولة عن إعداد معلمي المستقبل.
وفي نهاية محور المعلم، تطالعنا توصية جوهرية تتمثل في قانون «تمهين التعليم»، وهذا يستدعي تفاعلا جادا من السلطة التشريعية في البلاد، لإصدار مثل هذا القانون في صورة تمكّننا من فرز المعلمين الحقيقيين عن غيرهم ممن اضطرتهم الظروف الاجتماعية أو المالية للعمل في مهنة لا يعشقونها ولا يجدون أنفسهم في ممارستها، وفي ذلك حدٌّ من النظرة الدونية لكلية التربية التي باتت ملاذا أخيرا لكل طالب يفشل في التخصصات العلمية، أو لكل طالبة تُجبَر على دخولها لأسباب اجتماعية لا تخفى على القارئ الكريم، لذا فإنّ قانون «تمهين التعليم» خطوة رئيسة في الحد من إقبال ضعيفي الكفاءة على مهنة التعليم بسبب الحوافز المادية المرتفعة التي نتجت عن قانون كادر المعلمين المشوّه.
العلوم الإنسانية والتربية المَتْحَفِيَّة
بعد استطراد إلى رحلتنا البحرية، وصلنا إلى ميناء جديد توقّف عنده مؤلفو المبادرة، نقف عند واقع العلوم الإنسانية التي تعاني إهمالًا لا حاجة إلى الإطناب في وصفه، وقد شرح الكتاب ما لهذه العلوم من قدرة على تطوير التفكير النقدي، وفهم المجتمع، ومخاطبة الجمهور، وإحداث نقلة نوعية في التعبير عن الذات، هذا إضافة إلى ضبط الذات وبناء الشخصية المتوازنة ذات القيم الراسخة، واستعرض المؤلفون دراسات تؤكد أهمية العلوم الإنسانية في سوق العمل، مما ينقض الصورة النمطية السائدة عن تلك العلوم التي لا يحتاجها سوق العمل.
وتحت هذا المحور، تطرّق الكتاب إلى التربية المَتْحَفِيَّة اللازمة لتعزيز مهارات الاستكشاف والملاحظة والتفكير الناقد والتأمل والحوار، وأُكِّدَت أهمية المتاحف في توسيع فهمنا للثقافات الإنسانية المختلفة، وفهم وجوه الاتفاق والتعارض فيما بينها، وهذا جانب مهمل عندنا في الكويت التي تزخر بمتاحف متنوعة رسمية وأهلية، فمناهجنا لا تتضمن ما يستدعي زيارة تلك المتاحف، والأمر في ذلك موقوف على رغبة بعض المعلمين من أصحاب الوعي بدور تلك المتاحف في تعلّم طلابهم، كما أن كثيرًا من تلك الزيارات المدرسية لا تعدو أن تكون نشاطات شكلية غير مخطط لها بصورة تضمن تحقيق خبرات عميقة لدى الطلاب، وتحضرني عند الحديث عن ذلك تجربة إحدى طالباتي مع أطفال مرحلة الرياض، فقد اصطحبت المعلمة فاطمة الدندن طلابها إلى متحف بيت العثمان لتعليمهم خبرة «بلدي الكويت»، وتعريفهم بجوانب من تاريخنا، فكان لهذه التجربة أثر عميق في تحقيق أهداف تلك الخبرة، ولم تغفل المبادرة دور الأنشطة المدرسية في تعلّم الطلاب وإكسابهم خبرات واسعة تدعم تعلُّمهم، وتطرّقت أيضا للتربية الكشفية والرياضية ودورها في بناء الشخصية، ولا يخفى على أحد أن مثل هذه الأنشطة تُمارس في الميدان التربوي ممارسة شكلية خالية من الروح، غير مربوطة بأهداف التعلم.
* أ. د. علي عاشور الجعفر
أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت