لمن الصورة الأخيرة؟ *
يستعرضون قتلهم في كل لحظة، ويدونون تلك اللحظات خشية ألا تنال «ترند» على وسائل التواصل أو لا تلتقطها إحدى المحطات العالمية لتنشرها، يصورون لحظة اقتحام المدن والبلدات والشوارع والأحياء والبيوت بيتا بيتا وغرفة غرفة، كما يفعلون الأمر ذاته في أثناء قتلهم لما يطلقون عليهم أسماء مختلفة، وهي في مجملها تعبر عن معنى واحد «بشر أقل من البشر» أو «بني آدمين» أقل من «البني آدمين».
هي المرة الأولى ربما منذ أن اخترع التلفزيون أو حتى منذ آلة التصوير البدائية التي يدون فيها القاتل ضحيته أو المجرم جريمته بكل تفاصيلها منذ أن يقتحم ويقصف ويقتل حتى سرقة لعب الأطفال والسخرية من الموتى وهم منكبون على وجوههم أو فوق بعضهم بعضا أو تحت دمار بيوتهم أو بيوت غيرهم.
هي المرة الأولى فلم يقم هتلر بتصوير المحرقة ولا مطاردت اليهود وقتلهم، بل قام كثير من الناجين بتدوين قصصهم حتى اشتهروا بأسمائهم الأولى وحولوها إلى سيناريوهات لروايات وأفلام هوليودية نالت جوائز طبعا، أليست هي المحرقة وألا تدون فظاعة ما قام به النازيون؟
ولكنهم اليوم في غزة وفي كل بقاع فلسطين يجاهرون بوحشيتهم وقبحهم وحقدهم المترسخ عبر مناهج تعليم وثقافة عامة غير محصورة في مدارسهم وجامعاتهم بل تمتد لتصل الى مدارس وجامعات وكليات في أوروبا وأميركا وكثير من دولنا أيضا!!!
هم يرسلون الصور مشهدا خلف مشهد، وضحكات السخرية ترافق رشقات الدم وآهات أوجاع أهلنا في فلسطين تأتي معها، ترافقها ولكن لا حياة لكل إعلامهم «العظيم» إعلامهم غير المنحاز أبداً إلا لرواية المستعمر المغتصب، وإلا لما لا نرى مثل هذه المشاهد المرعبة التي يصورها جنود الاحتلال إما بهواتفهم الذكية أو بالكاميرات المرافقة لكل تلك المعدات العسكرية الشديدة التطور والتعقيد!!! كل آلة الحرب تأتي في صور هداية لا تتوقف من قبل أميركا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، أما الطعام والشراب وغيره فاتركوه على الآخرين من حلفائهم المحليين يتكفلون به عبر جسور برية هنا أو موانئ هناك أو حتى لنلقي ببضعة صناديق لنطعمهم علنا نطفئ تلك الشعلة التي بدأت شرارة تصورها البعض أنها ستنطفئ سريعا أو ربما تموت بفعل الزمن أو التعود على صور الموت، إلا أنها امتدت لتعبر الحدود والوديان والسهول وتشعل الشوارع بصراخ يقول «من النهر إلى البحر فلسطين حرة».
يستمرون هم في أخذ الصور وتدوين مقاطع فيديو في غرفة لطفلة فلسطينية بل هي غرف لأطفال فلسطين كل منها تحكي قصصاً وروايات لذكريات، وهنا بقايا لعبة أو ربما كرة قدم، يقوم الجنود بتصوير اقتحامهم لكل غرف الفلسطينيين وبيوتهم لو لم يكونوا هم من يفعلون ذلك لقيل إن هؤلاء «حثالة» البشر، لكنهم صهاينة بل جنود الصهاينة، لذلك فالعالم المتحضر يبقى يتفرج على المجرم وهو يدون جريمته، ورغم ذلك لا يخجل ذاك المذيع العريق من طرح السؤال الأول المكرر: «هل تدين ما قامت به حماس في 7 أكتوبر؟»، يطرح السؤال وكأن كل هذا الكم من تدوين أحداث الجريمة لم يمر عليه ولم يلق أهتمامه، ولم يثر حتى ما تبقى من إنسانية تحت جلده!!!
هم يدونون إبادتهم الجماعية ويسترسلون في شغل العالم «المتحضر» في تعريف الإبادة أو حتى جرائم الحرب التي عرفتها وبوضوح كل الاتفاقيات الدولية التي تبرأ منها ذاك المدرس الملتزم بتعليم روح النص القانوني الوطني والعالمي. ألم يعتذر كثيرون من أنهم علموا طلابهم أن هناك عدالة كونية وأن القانون والاتفاقيات الدولية هي ملاذ الضعفاء والمذبوحين على جراح أوطانهم وأرضهم؟
هي المرة الأولى التي يدون فيها المستعمر تفاصيل قتلها وبشاعة استيطانه وسرقته للأرض وما عليها، ورغم ذلك يبقى العالم المتحضر جدا يطرح الأسئلة البلهاء إلا ربما بالنسبة له هو لأنه اعتاد أن يطرحها، وتعود على أن كل العالم جنوبا قد احترف الصمت والإصغاء له، ها هو العالم جنوبا خارج أطار «الرجل الأبي» يرفض كل رواياته بعد 7 أكتوبر، ويقول سندينكم يوما بصوركم أنتم ورواياتكم وليس كما تفعلون أنتم فيما يتعلق بالهولوكوست اوالمحرقه التي يحملها كثيرون ليبرروا بها فعلهم الذي زاد وفاق بشاعة وكراهية وحقداً.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية