كما في الإيمان والشطارة والنجاح لسنا جميعاً على درجة واحدة، وليس المطلوب أن نكون كذلك، وأيضاً في التضامن هناك من يبحث عن إنسان بحاجة إلى دعم أو مساعدة، ليس المادية فقط بل هناك الكثيرون ممن هم بحاجة إلى كلمة طيبة أو مساندة أو تفهم للموقف فقط، هو أو هي يبحثون عن ذاك «المحتاج» إذا سميناه مجازاً، ليس لطلب الشهرة ونشر أنهم يقدمون «الحسنات» والصدقات بل فقط لأنهم ملتصقون بإنسانيتهم أو ربما أحياناً من منطلق ديني يلامس عمق الدين لا قشوره من لبس وطقوس وصلوات فقط! هم يريدون أن يكونوا أقرب الى إنسانيتهم أو أن يحافظوا عليها في مثل هذه الأوقات الصعبة، حيث تمتحن الإنسانية والإبادة مستمرة فوق أرض فلسطين والمجازر تطارد الأرواح الرافضة للخنوع والعبودية.

لذلك لا نتوقع أن يتضامن كل فرد أو إنسان مع أهلنا في فلسطين ولبنان وسورية واليمن وكل البلاد والعباد التي استباحتها آلة الصهاينة، لا نتوقع أن يكون التضامن على الدرجات نفسها، بعضنا يكتفي بالمقاطعة وآخر يقوم بالمتابعة والنشر وآخر بالتظاهر ورابع بالاعتصامات والإضراب عن الطعام وأكثرنا شجاعة والتصاقاً بإنسانيته ربما ذاك الذي رفض الحياة بعد أن أصبحت حياة الآلاف من الغزيين والفلسطينيين تنتهك في كل لحظة وعلى مرأى ومسمع من العالم وتحت أنظار حماة حقوق الإنسان، ومنظمات دولية تقول إنها جاءت من رحم الحروب لتمنع تكرارها!!!

Ad

يتنوع ويتفاوت التضامن هناك في موريتانيا ودول أخرى تبرع كثيرون بمصروفات العيد وتنازلوا عن ولائم عيد الفطر وحتى الملابس الجديدة لأطفالهم من أجل وصول رغيف خبز وبعض الحليب والدواء لأهلنا في غزة، وهناك من قال لا عيد والفلسطينيون يبادون والموت يسقي الأرض أكثر من الماء، والحصار المتعمد والتجويع أسلحة حرب قذرة رغم أنها ليست حرباً بين طرفين، بل هي إبادة المحتل لأصحاب الأرض في محاولة أخيرة لإنهاء آخر صوت يطالب برحيله هو كل من تعلم في مدارس الصهيونية على نازية دموية تنظر للآخر على أنه «إنسان أقل» أو ربما هو حيوان أو حتى أقل منه.

لم يطلب الفلسطينيون منا أن نزحف نحو غزة بالملايين كما كانت الشعارات قبل سنين، ولم يطلبوا أن نمتنع عن الأكل والشرب تضامنا وإحساسا معهم، ولم يطالبوا ألا نعالج مرضانا لأن مرضاهم مصيرهم بتر الأطراف دون مسكنات أو حتى الموت البطيء والدواء يترقب السماح بفتح المعابر ليمر هو وكثير من الطحين والأكل والماء!!

لم يطلب الغزاويون كل ذلك، ولم يقولوا: لماذا لا تتظاهرون ولم يكرروا، أو ربما يئسوا؟ لماذا لا تلغون اتفاقياتكم أو تتوقفون عن النقاش لتوقيع اتفاقيات جديدة مع دول عربية أخرى؟ هم لم يطالبوا بكل ذلك ولم ينتظروا منا أي عمل للمناصرة رغم أن ذلك حقهم كما كان حق شعب جنوب إفريقيا مع نظام الفصل العنصري.

هم لم يطالبوا ولم يتوقعوا بل وقفوا لأكثر من نصف عام وحيدين يتصدون للصواريخ بصدورهم وعزيمتهم وإيمان أطفالهم قبل شيخوهم بأن هذه الأرض لهم، ومن يترك أرضه فلا بيت له في أي مكان يبقى لاجئاً حتى آخر رمق، لكنهم أيضاً لا يتوقعون أن يتفضل بعضهم مفكراً هناك في تلك المدينة البعيدة عن العالم ليس جغرافياً بل في تفاصيلها، والذي «يفتي» في تغريدات مستمرة عن أن غزة ستكون أفضل لو منحت إدارتها لهذا البلد، وستتحول إلى جنة يقصدها السياح من بقاع الكون وبإمكان الغزاوين الرافضين أن يغادروا، أو حتى تلك السيدة الجالسة في بلدها الذي لا تتوقف صواريخ الصهاينة عن انتهاك حرمته، وهي تفاجئنا كل يوم بمقابلة هنا أو هناك تتحدث بثقة متناهية عن أن الغزاويين لا يريدون الحرب أو أنهم يكرهون حماس أو... أو... وكأنها أكثر من يعرف ماذا يريد أهل غزة، بل تتمادى لتقول إن أهل غزة كانوا في وضع أفضل قبل السابع من أكتوبر وكانوا يعيشون «سعداء».

والعيد على الأبواب ونحن نردد تلك العبارة المتكررة، أي عيد، في أي وقت وصور الذبح والإبادة تسبق غداء العيد أو تحوله إلى وليمة من الدم المعجون بأشلاء أهلنا هناك، ليتهم والعيد يقترب وحتى ما بعد العيد يتوقفون عن الإدلاء بآرائهم حول ما هو الأفضل لأهل غزة، أو الحديث نيابة عنهم، أو حتى التمثيل على أنهم حزينون على ما يجري لأنهم باختصار كذابون ومنافقون، بل هم أكثر من ذلك كما كان حملة الأختام في تلك الأزمنة البعيدة أو شعراء البلاط، أو ربما هي العبودية الطوعية التي كتب عنها ايتيان دولا بويسي في كتابه الشهير «مقالة العبودية الطوعية» التي يستغرب فيها الإذلال الذي يقدمه الناس لملوكهم أو حكامهم أو للأنظمة المستبدة، فهو يرى أن على الفرد الذي حتما يولد حراً أن يدافع عن حريته ويحميها، وهو من أبدع في وضع «المواطن المستقر» وهو التعبير الأنسب لكثير من الذين يواجهون ما يجري اليوم في غزة بكثير من الحزن طبعاً، ولكن وهم يرددون «ماذا نستطيع أن نفعل؟» أو «كل ما سنقوم به لن يفيد شيئاً» ربما خوفاً من ذاك الاستقرار الهش أو الوهمي الذي خلقته لهم بعض أنظمتهم ربما!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية