واصلت أسعار الذهب ارتفاعها القياسي اليوم، مدفوعة بعمليات مضاربة واستمرار التوترات في الشرق الأوسط، التي طغت على بيانات الوظائف الأميركية القوية التي صدرت الأسبوع الماضي.
وارتفع الذهب في المعاملات الفورية 0.3 في المئة إلى 2335.73 دولاراً للأوقية «الأونصة»، بعدما سجل مستوى قياسياً مرتفعاً عند 2353.79 دولاراً في وقت سابق من الجلسة.
وصعدت العقود الآجلة الأميركية للذهب 0.4 في المئة إلى 2354.50 دولاراً.
وقال كايل رودا محلل الأسواق المالية في كابيتال دوت كوم: «إذا نظرت إلى تسعير العقود الآجلة، فسترى مؤشرات الآن على وجود قدر من الزخم في السوق... لدرجة أننا نرى قليلاً من التفاؤل المفرط بشأن التوقعات الخاصة بالذهب عند المستوى الحالي».
وأضاف أن التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط قد تكون قوة دفع أخرى للذهب.
وأدت عمليات الشراء القوية من البنوك المركزية، والإقبال على الملاذ الآمن في ظل مخاطر جيوسياسية متزايدة، والطلب من الصناديق المواكبة لاتجاهات السوق، إلى ارتفاع أسعار الذهب 12 في المئة منذ بداية العام.
وفي الوقت نفسه، فاق نمو الوظائف في الولايات المتحدة التوقعات في مارس، مما يشير إلى أن الاقتصاد الأميركي أنهى الربع الأول على أرض صلبة وربما يؤخر إقدام مجلس الاحتياطي الاتحادي «البنك المركزي الأميركي» على خفض أسعار الفائدة المتوقع هذا العام.
ورفع «يو.بي.إس» السعر المستهدف للذهب بنهاية العام إلى 2250 دولاراً للأوقية في ضوء الطلب القوي وارتفاع مشتريات صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة.
وأضاف في مذكرة «نتوقع أن تزيد صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة من حيازة الذهب بمجرد أن يبدأ مجلس الاحتياطي الاتحادي خفض أسعار الفائدة في منتصف العام تقريباً».
ومن الناحية العملية، ظل الطلب على الذهب في الهند فاتراً الأسبوع الماضي بسبب الإحجام عن الشراء نتيجة الارتفاع الشديد في الأسعار المحلية، بينما ظلت الأسعار ثابتة في الصين، أكبر مستهلك للذهب.
وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، ارتفعت الفضة في المعاملات الفورية 1.1 في المئة إلى 27.77 دولاراً للأوقية. وصعد البلاتين 0.1 في المئة إلى 927.78 دولاراً للأوقية. وزاد البلاديوم 0.2 في المئة إلى 1001.76 دولار.
وتواصل أسعار الذهب تحطيم كل المستويات القياسية، بدعم الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية وسط آمال خفض معدلات الفائدة حول العالم.
لكن رغم حالة التفاؤل التي تسود في أوساط المحللين بشأن آفاق أسعار المعدن النفيس، فإن استمرار الصعود يتوقف على تطور الصورة الاقتصادية وقرارات البنوك المركزية هذا العام.
عوامل داعمة
أسهمت الحرب الروسية - الأوكرانية والصراعات في الشرق الأوسط في حالة من عدم اليقين في الأسواق العالمية، مما دعم التدافع لحيازة المعدن باعتباره ملاذاً آمناً في أوقات الاضطرابات الجيوسياسية.
وتصاعدت التوترات في الشرق الأوسط بشكل خاص مؤخراً، مع استمرار الحرب في غزة وفشل محاولات التوصل إلى وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى مخاوف توسيع رقعة الصراع في المنطقة.
كما استفاد المعدن في الفترة الماضية من تكهنات قرب خفض معدلات الفائدة الأميركية، مما يقلص تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب.
وقال «ناجيل غرين» الرئيس التنفيذي لمجموعة «ديفيري» إن الرؤية الشائعة تشير إلى أن مكاسب الذهب تأتي مدعومة بالتوترات الجيوسياسية وتوقعات خفض معدلات الفائدة من جانب الاحتياطي الفدرالي الأميركي.
لكن محللين أشاروا إلى أن المشتريات القوية للذهب من جانب البنوك المركزية حول العالم كان لها أثر ملحوظ في ارتفاع المعدن.
وفي فبراير الماضي، ارتفعت حيازة البنوك المركزية العالمية من الذهب بمقدار 19 طناً، لتواصل صافي المشتريات الموجب من المعدن للشهر التاسع على التوالي.
وبلغ الطلب على الذهب من جانب البنوك المركزية نحو 1037.4 طناً في عام 2023، ما يعد أقل قليلاً من المستوى القياسي المسجل في 2022 عند 1081.9 طناً.
وكانت البنوك المركزية مشترياً صافياً للذهب على أساس سنوي منذ عام 2010، حيث راكمت أكثر من 7800 طن خلال تلك الفترة، بينما جاء أكثر من 25% من هذه الكمية في العامين الماضيين.
وقال «بول وونغ» استراتيجي السوق في «سبروت أسيت مانجمنت» إن البنوك المركزية كانت بين العوامل التي أسهمت في رفع أسعار الذهب.
كما توقع المحلل المستقل «روس نورمان» أن تستمر عمليات الشراء القوية من جانب البنوك المركزية، لتظل أعلى 1000 طن سنوياً.
وأشار «نورمان» إلى أن سعي بعض الدول لتقليص الاعتماد على الدولار، مع تصاعد القلق بشأن استخدام الولايات المتحدة لعملتها كسلاح، دعم اتجاه دول إلى تحويل احتياطياتها إلى الذهب.
كما يرى «نيكولاس كولاس» المؤسس المشارك لشركة «داتا تريك ريسيرش» أن وجهة نظر شركته الإيجابية بشأن الذهب تنبع من الاعتقاد بأن البنوك المركزية العالمية ستكون مشترياً مستمراً لسنوات عديدة، رغم التباطؤ المسجل منذ بداية العام الجاري.
وقال «كولاس»، إن أحد التفسيرات المنطقية للارتفاع الأخير في أسعار الذهب هو أن المتداولين يحاولون استباق مشتريات البنوك المركزية الضخمة المتوقعة في وقت لاحق من هذا العام.
وأشار مؤسس «داتا تريك» إلى أنه منذ العقوبات الغربية ضد روسيا عقب غزوها لأوكرانيا في عام 2022، أصبحت قيمة الاحتفاظ باحتياطيات الذهب بدلاً من سندات الخزانة أكثر وضوحاً للكثير من الحكومات، باعتبارهما مسعرين بالدولار ويتميزان بسيولة عالية ويحظيان بالاحترام كمخزن طويل الأجل للقيمة.
الصين تقود الاتجاه
وكانت الصين أكبر مشترٍ للذهب في شهر فبراير الماضي، لتستمر في مراكمة المعدن للشهر السادس عشر على التوالي.
واشترت الصين نحو 12 طناً من الذهب في فبراير لتصل حيازتها إلى 2257 طناً، لكن لا يزال المعدن يمثل حوالي 4% من إجمالي الاحتياطيات.
ورفعت الصين احتياطياتها من الذهب بنحو 225 طناً في العام الماضي وحده، ليشهد 2023 أكبر وتيرة زيادة لمشتريات المعدن من جانب بكين منذ بدء جمع البيانات في عام 1977.
و قال «بول وونغ» المحلل في شركة «سبورت أسيت مانجمنت» إن المستثمر الصيني العادي يمتلك ما يقرب من 75% من صافي ثروته المرتبطة بسوق العقارات الهشة حالياً، بالإضافة إلى أن سوق السندات في البلاد ضعيف التطور، كما أن سوق الأسهم لم يشهد تحركات كبيرة منذ 20 عاماً.
وأضاف «وونغ» أن الصين تحظر العملات المشفرة، بالإضافة إلى أن هناك ضوابط على رأس المال، ما يترك الذهب وحيداً باعتباره مخزناً معروفاً ومقبولاً تاريخياً للقيمة.
كما أشار المحلل إلى أن هناك رغبة وحاجة إلى التنويع بعيداً عن الأصول المقومة بالدولار، نظراً للعلاقة المتدهورة بين الصين والولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
صعود يتحدى العقبات
ورغم الارتفاع القوي للذهب في الأسابيع الأخيرة، فإن الاتجاه الصاعد يواجه بعض العقبات والتي تمكن حتى الآن من تجاوزها.
ونجح الذهب في مواصلة اتجاهه الصاعد مؤخراً، رغم ارتفاع مؤشرات الأسهم الأميركية لمستويات قياسية، ومع تصاعد المخاوف بشأن تأجيل خفض الفائدة من جانب الاحتياطي الفدرالي.
ووصلت مؤشرات الأسهم الأميركية لمستويات قياسية في نهاية شهر مارس الماضي، قبل أن تتراجع في الأسبوع الأول من أبريل تحت ضغط البيانات الاقتصادية القوية والتي قد تدفع الفدرالي لتأجيل خفض الفائدة.
لكن لا يزال مؤشر «داو جونز» للأسهم الأميركية مرتفعاً بحوالي 3.2% منذ بداية العام، كما تبلغ نسبة ارتفاع مؤشري «إس آند بي 500» و«ناسداك» حوالي 9% و8% على الترتيب في نفس الفترة.
كما جاء صعود الذهب في الفترة الماضية بالرغم من ارتفاع مؤشر الدولار الأميركي لأعلى مستوياته في خمسة أشهر، قبل أن يتراجع عن هذا المستوى لاحقاً.
ويعد مؤشر الدولار مرتفعاً بنحو 3% منذ بداية العام الحالي حتى نهاية تعاملات الأسبوع الماضي.
ومن المعروف أن ارتفاع الدولار يؤثر سلباً على المعدن النفيس، بالنظر إلى أنه يجعل شراء الذهب أكثر تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.
كما تثير البيانات الاقتصادية القوية مخاوف الأسواق من تأجيل الفدرالي لخفض معدلات الفائدة هذا العام.
وأضاف الاقتصاد الأميركي 303 آلاف وظيفة جديدة في شهر مارس الماضي، متجاوزاً التوقعات البالغة نحو 200 ألف وظيفة، مع هبوط معدل البطالة بشكل مفاجئ إلى 3.8%.
وقال رئيس الفدرالي في مينيابوليس «نيل كاشكاري» إنه قد لا تكون هناك حاجة لخفض معدلات الفائدة على الإطلاق هذا العام، في حال استمرار قوة الاقتصاد وصعوبة كبح التضخم للمستويات المستهدفة.
ويرى «فورد أونيل» مدير المحافظ في «فيديليتي استراتيجيك» أن الصعود الأخير للذهب يعتبر غريباً بعض الشيء، بالنظر إلى أن المعدن النفيس «يعبر عن رغبة المستثمرين في الابتعاد عن الأصول الخطرة».
لكن الواقع يشير إلى أن الأسواق العالمية لم تشهد أي ابتعاد عن المخاطرة في الأشهر الأخيرة، حيث صعدت أسعار الأسهم والعملات المشفرة وغيرها من الأصول الخطرة.