نصف قرن على الحرب الأهلية اللبنانية... جرح لم يلتئم وشعب لم يلتحم
خمسون عاماً مرّت على 13 أبريل (نيسان) 1975، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ومازال حتى توصيفها موضع خلاف بين المعنيين، فمرة يقرّ اللبنانيون بأنها كانت صراعاً دموياً بين الإخوة، وتارة يعتبرها البعض امتداداً للنزاع التاريخي على حكم جبل لبنان بين زعماء الدروز والمسيحيين، وطوراً يجزم آخرون بأنها مقاومة وطنية لمشروع «الوطن البديل للاجئين الفلسطينيين»، وأطواراً أخرى يلصقها البعض بالصراع الطبقي والتمييز السياسي والدستوري لمصلحة فئة على حساب الفئات الأخرى، وحيناً تُرى أنها نتيجة القلق الوجودي لمسيحيي لبنان من المحيط الإسلامي والعربي، وأحياناً تُربط بنظرية التآمر الإقليمي والصهيوني على ما كان يسمى «سويسرا الشرق»، الى أن وصل الأمر للقول- في سبيل إراحة الضمير- أنها «حرب الآخرين على الأراضي اللبنانية».
والحقيقة أن هذه الحرب التي استمرت رسمياً ما يقارب خمسة عشر عاماً، وواقعياً أكثر من ذلك، هي خلاصة كل ما ذكر! وخلاصتها أنها أودت بحياة أكثر من مئة وخمسين ألف شخص، وأدت الى تفكك المجتمع اللبناني ونزوح وهجرة مئات الآلاف من عائلاته وشبابه، ونتج عنها تدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية وانهياراً شبه كامل للبنية التحتية، وشللاً واضحاً لمقومات الدولة، ناهيك عن تراجع الاقتصاد اللبناني والليرة اللبنانية الى مستويات غير مسبوقة... إلخ.
الحقيقة الأكثر جلاء أن ما قبل الحروب الأهلية ليس بالطبع كما بعدها، وأن الدول التي تشهد مثل هذه النزاعات الدموية والدمار الهائل لا يمكن أن تعود الى سابق عهدها من اللحمة الوطنية والاستقرار السياسي والازدهار التنموي من غير معالجة حقيقية وجذرية لأسباب اندلاعها ولمواطن الخلافات المؤججة، ومن دون أن يوضع حد للنزف والاستفادة من الدروس لأجل مستقبل أوضح وأفضل... الأمر الذي لم يحدث قطعاً في لبنان، حيث تم استبدال اللباس العسكري بالبدلة المدنية وانتقال من سيطر على الشوارع الى سدة الحكم وتولي أمور الإدارة والمؤسسات، وحيث ما زال اللبنانيون يُعاملون ويتعاملون- للأسف- على أساس أنهم شعوب وليسوا شعباً واحداً!
الشعب اللبناني الذي أثبت تميّزه وحضوره اللافت على المستويات العلمية والعملية والحياتية كافة في كل أصقاع الأرض، عجز داخل حدود دولته أن يقاوم خبث وفساد ودموية ولاة أمره في أزمنة الحرب وأيام السلم... فقد ابتلي هذا الشعب بأدهى من طبّق قاعدة «فرّق تسد» وأشرس من نفّذ مقولة «أنا وما بعدي الطوفان» وأسوأ من اعتنق العقيدة «المافياوية» بما يعرف عنها من شراسة في الإجرام، وتقلب في المواقف والتحالفات، وتوزيع للأدوار مع الثبات والالتزام بموبقات الابتزاز والاستغلال والتهديد والسرقة والقتل.
قد لا تلام الأجيال المتعاقبة من الشعب اللبناني على عدم استطاعتها الصمود أمام هذا الكمّ الكبير من الضغوط الخارجية والألاعيب الداخلية التي فرضت هذا الواقع السيئ ذي الجذور التاريخية والتأصيل الاستعماري والـتأطير الدستوري والمؤسساتي، إلا أن كثيراً من اللبنانيين يلامون- دون أدنى شك- على استسلامهم للواقع ورضاهم أن ترهن مصايرهم ومصاير أبنائهم بنزوات «الفاشيين» من زعماء الطوائف والمناطق، وأن تبقى جيوبهم خزاناً لأطماعهم وطموحات ورثتهم!
وما نتائج الانتخابات النيابية المتعاقبة، وفشل فورة السابع عشر من أكتوبر 2019، الا أدلة واضحة على تحكم الطائفية البغيضة بالفكر السياسي اللبناني... وما استسلام الشعب اللبناني لسرقة مدخراته من قبل البنوك المأمورة والمملوكة من السياسيين وسكوته عن تمييع التحقيقات في انفجار «مرفأ بيروت»- وهو ثاني أكبر انفجار غير نووي في التاريخ- إلا دلالة على خنوع هذا الشعب أمام هيمنة مافيا السلطة... وما واقع التأقلم مع الأزمات المتعاقبة الا استخداماً خاطئاً لطاقة الابداع اللبناني.
***
اختلاف المكونات الطائفية على «تعريب» أو «تغريب» وجه لبنان، وعدم سيطرة الدولة على الموقف والسلاح وتباين الانتماءات الخارجية، وتحكم الفكر الميلشياوي بمقدرات البلاد والعباد من خلال السلف والخلف، استعداد اللبنانيين عند كل مفترق طرق استراتيجي أو اختلاف تكتيكي أو حدث أمني أو اغتيال سياسي الى النزول الى الشارع واستعراض القوة، وتعاظم قوة الأحزاب والتيارات الطائفية... هو تأكيد حاسم على أن الجرح لم يندمل، وأن المستقبل- كما الحاضر والماضي- يحتاج إلى عملية استئصال جدّية وعاجلة للأورام الخبيثة، ومن ثم كيّ مكامن الألم والنزف، الأمر الذي يبدو معه أن «اتفاق الطائف»- الذي أريد له أن يضع حدّاً نهائياً للنزاع- لم ينجح في تحقيقه أو لم يسمح له -داخلياً وخارجياً- أن ينسب اليه!
ما يحتاج إليه لبنان المتعافي معروف وواضح، وهو ينطلق حتماً من «لبننة» الحلول لا استيرادها، إذ إن الأصدقاء والأشقاء سيقفون حتماً مع الشعب اللبناني عندما يحكّم أفراده ضميرهم الوطني لا الطائفي، فينتجون من خلال انتخابات نزيهة وعادلة ومراقبة عربياً ودولياً قادة حقيقيين ومسؤولين وطنيين مستعدين للمضي في مسار واضح يبدأ بوضع دستور عصري يكون تعبيراً صادقاً عن العقد الاجتماعي الحقيقي، ومن شأنه أن يعيد للدولة هيبتها وللسلطة مؤسساتها وأدوات حكمها، الأمر الذي يجب أن يترافق باستعجال في إجراء اصلاح هيكلي للبنية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقضائية والأمنية، ومن ثم الاستثمار في التعليم ومشاريع التنمية المستدامة، دون أن ننسى أهمية المحاسبة الجدّية للمجرمين أيام البلاء وللسارقين أيام الرخاء، والعمل على بلورة أهداف وطنية جامعة يتم العمل على تكريسها بكافة الوسائل التعليمية والتربوية والدعائية والقانونية.
قد تبدو هذه الحلول بعيدة المنال أو رومانسية النزعة لكنها قطعاً غير مستحيلة ولا خيالية... وقد توهّم الكثيرون من الشعب اللبناني وأصدقائه بأن الوضع في لبنان وصل الى حد من الاهتراء الذي يعجز معه أي مبضع جرّاح، والواقع- حقيقة- غير ذلك، شرط الاستعجال قدر الإمكان ببدء عملية الاصلاح البنيوي، فالشعب اللبناني، رغم كل مآسيه المتراكمة، ما زال قادراً على اجتراح الحلول اذا ما قاوم بصدق ووطنية أي «مؤامرة» أو «ضغوط» دولية أو إقليمية، كما أن الاقتصاد في بلد صغير وغني بموارده وطاقاته الطبيعية والبشرية من شأنه أن ينهض سريعاً من خلال ضخ بعض المليارات القليلة من الدولارات التي تتلقاها- كمنح أو قروض- سلطة وطنية غير فاسدة، أما تكريس الانصهار الوطني فهو أمر غير مستعص على الدولة القادرة والقضاء النزيه والقانون العادل والمناهج الموضوعة بحكمة ووطنية.
* كاتب ومستشار قانوني.