كان من الصعب والنادر أن تهتم وسائل الإعلام العربية بأحداث جانبية غير تلك التي تجري في قطاع غزة وما يعيشه سكانها والآمال المعقودة على وقف الحرب وعودة المشردين لديارهم ومعالجة الجرحى والمرضى ونهاية المأساة.
لكن الأحداث اليومية تفرض نفسها، وننشغل بها أيضا وبخاصة إذا تعلقت بالأوضاع المعيشية وظروف الحياة، فكيف لو أن هذه الأحداث تتعلق بفئات معينة من سكان الأرض، وبأوضاع تهم هؤلاء السكان مثل كبار السن وتكاد أن تصبح مصيرية في حياتهم، ونقصد بالأوضاع الظروف المناخية، والانبعاث الحراري، وارتفاع درجات الحرارة، وتلوث الجو والمياه.
ولعلنا نعطي مثالا فرض نفسه الأسبوع الماضي على الأخبار في القارة العجوز والمحاولات المبذولة من قبل مختلف حكوماتها لحماية البيئة، ونقصد ما صدر بتاريخ 9/4/2024 من حكم وقرارات عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومقرها مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
ففي سابقة قضائية مهمة ومتميزة، أصدرت هذه المحكمة الأوروبية حكما أكد انتهاك سويسرا بعض أحكام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950، وكانت أربع سيدات سويسريات من كبار السن، وجمعية بيئة سويسرية قدمن شكوى إلى هذه المحكمة، وتم الادعاء على الحكومة السويسرية بأنها لم تقم بواجباتها، وبحسب ما تنص عليه هذه الاتفاقية الأوروبية وبخاصة المادة 8 التي تنص على احترام الحياة الخاصة والعائلية، بخصوص اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من آثار التغير المناخي على البيئة، والصحة، ورفاهية الحياة وجودتها.
ولكن ردت المحكمة في المقابل وفي قرارين دعوى أولى رفعها ستة من الشباب البرتغاليين على بلدهم البرتغال وعلى 32 دولة أوروبية أخرى بدعوى تقصيرهم بحماية البيئة، مما أدى للتغيير المناخي وارتفاع درجات الحرارة، واندلاع الحرائق مما نتج عنه انتهاك عدة مواد من مواد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ولكن المحكمة ردت الدعوى لأن هؤلاء الشباب لم يقوموا وحسب الأصول باستنفاد طرق الطعن الداخلية في البرتغال وبقية الدول الأوروبية الأخرى، وهي قاعدة أساسية لتقديم الشكاوى للمحكمة الأوروبية.
وردت المحكمة دعوى أخرى رفعها عمدة مدينة فرنسية سابقا ضد الحكومة الفرنسية تتعلق بتقصيرها في حماية الحق في الحياة، وحماية الحياة الخاصة في المقاطعة التي كان مسؤولا عنها، وكان سبب رد الدعوى ما لاحظته المحكمة من أن مجلس الدولة الفرنسي سبق أن نظر في القضية المعروضة عليها وحكم جزئيا لمصلحة سكان هذه المقاطعة، كما أن العمدة غادر منصبه بعد رفع الدعوى.
ومن الجدير بالذكر أن الناشطة في مجال البيئة السويدية غريتا تونبرغ ووزيرة بيئة فرنسية سابقة كانتا من بين الحضور الذين غصت بهم قاعة المحكمة الأوروبية حين قرأت رئيسة المحكمة من الجنسية الأيرلندية حيثيات حكم المحكمة وقراراتها.
يحمل حكم المحكمة الأوروبية الأخير عدة دلالات: أولها الاهتمام بفئة معينة من السكان ونقصد بهم كبار السن، ومن المهم أن نشير أن المجتمع الدولي لم ينجح حتى الآن باعتماد اتفاقية دولية لحماية حقوق كبار السن علما أنه نجح في اعتماد اتفاقيات لحماية المرأة والطفل وذوي الإعاقة، وهو ما يُعرف عنهم بأنهم من الفئات الهشة وكبار السن من هذه الفئات. الدلالة الثانية هو نجاح المحكمة بإعطاء تفسيرات لا تتوقف عند النص الحرفي للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تسهر المحكمة على حسن تنفيذها من قبل 46 دولة أوروبية أطراف فيها، فلم تنص الاتفاقية الأوروبية على الحق في حماية البيئة لكن المحكمة فسرت التقصير في حماية البيئة كتعد على الحق في الحياة وعلى حماية الحياة الخاصة والعائلية التي تنص عليها المادة 8 من الاتفاقية.
وتكمن الدلالة الثالثة بالتطور الذي يدخل على حماية حقوق الإنسان من خلال التوسع في تفسير هذه الحقوق وضمان احترامها تبعا للتطورات التي يعيشها كوكبنا مناخية كانت أو علمية أو تكنولوجية.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.