قد تبدو واقعة تعيين رونا مكدانيال كمحللة سياسية في شبكة «إن بي سي» الإخبارية ثم فصلها بعد تعيينها مثل عاصفة إعلامية صغيرة لكنها تجبرنا على مواجهة قضية أكبر بكثير ستظهر المرة تلو الأخرى في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية، إنها كيفية التعامل مع ترامب ومؤيديه.
باختصار، كانت مكدانيال تتولى رئاسة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري في نوفمبر 2020، وحاولت وقتها الضغط على المسؤولين المحليين للحزب الجمهوري لعدم التصديق على سلامة نتائج الانتخابات الرئاسية (التي فاز فيها بايدن الديموقراطي على ترامب الجمهوري)، كما أنكرت مكدانيال أيضا نزاهة تلك الانتخابات في مقابلة تلفزيونية.
هذا كله كان أمرا سيئا، لقد سمعنا الكثير عن ذلك الى حد أننا أحيانا لم نعد نشعر بأهميته، لذلك دعوني أذكِّر أنفسنا جميعا بما يلي:
كان ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يحاول وقف الانتقال السلمي للسلطة، لقد حرَّض جمهرة من الناس على تهديد نائبه نفسه (مايك بنس) ومُشرِّعي الكونغرس، وتمكن من دفع أغلبية من الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب على التصويت ضد المصادقة على نتائج انتخابات عام 2020 على الرغم من إجازتها بواسطة 50 ولاية إلى جانب واشنطن العاصمة وتأكيدها بواسطة المحاكم في عشرات الأحكام القضائية.
هذا ليس أمرا هينا، لكن المشكلة هي أن حوالي ثلث الأميركيين منذ ذلك الوقت يؤمنون بأن انتخابات عام 2020 لم تكن حرة ولا نزيهة، وهذا يعني أكثر من 85 مليون أميركي راشد.
السؤال: كيف يمكن لنا أن نتعامل مع هؤلاء؟ كيف يمكن أن نتعامل مع أولئك الذين قادوهم إلى الإيمان بذلك؟ هل نتجاهل وجودهم جميعا؟ هل يجب عدم السماح لأي شخص لديه وجهة النظر هذه بالحديث على شبكة «إن بي سي» الإخبارية؟ أعتقد أن مسؤولي «إن بي سي» كانوا يحاولون إيجاد وسيلة معقولة لتمثيل آراء هؤلاء الـ85 مليون أميركي على موجات أثير شبكتهم الاخبارية.
أنا أتفهم المعضلة، فمكدانيال تصرفت بطرائق ليست محافظة أو جمهورية بل معادية للديموقراطية، لقد هاجمت القواعد الدستورية للولايات المتحدة، لكن طبيعة الديموقراطية الليبرالية تعني أننا نسمح لكل أصناف الناس بالتعبير عن آرائهم، لقد ترشح شيوعيون أعلنوا شيوعيتهم صراحة لتولي رئاسة الولايات المتحدة.
دعونا نكن أمناء، العديد من القادة الجمهوريين يفتقرون إلى الشجاعة، ومن المستبعد أن يقبلوا بأكاذيب ترامب، لكنهم يعلمون أن قاعدة حزبهم تقبل بها وأن الاختلاف مع هذه القاعدة انتحار سياسي، فمعظم الجمهوريين المنتخبين الذين على نحو أو آخر عارضوا ترامب هم الآن جمهوريون منتخبون «سابقا».
لكن البعض يحاول فعلا النأي بنفسه عن أسوأ تجاوزات الترامبية، فمكدانيال في مقابلة مؤخرا على شبكة «إن بي سي» أكدت أن بايدن رئيس شرعي للولايات المتحدة، ألا يجب علينا تشجيع هذا النوع من العودة الى الوضع العادي والمألوف؟ أم يلزمنا أن نعاقب الى الأبد أولئك الذين أيدوا يوما ما نظريات المؤامرة؟
على الديمقراطيات الليبرالية تجنب إغراء استخدام وسائل غير ليبرالية حتى عندما تواجه آراء ومواقف معادية دون مواربة للديموقراطية الليبرالية نفسها.
ينتابني الشعور بالقلق من بعض قضايا المحاكم المرفوعة ضد ترامب، وربما تكون قضايا مشروعة من الناحية الفنية، لكن بعضها يتعلق بمخالفات حدثت قبل سنوات ولم يُتَّهم بشأنها وقت وقوعها، السؤال: هل كان سيُتَّهَم بها إذا لم يكن الشخصية السياسية الإشكالية اليوم؟
هذه المساعي للحكم عليه بالخروج عن المألوف لم تنجح حتى الآن، فعلى الرغم من اتهامه بارتكاب 88 جناية والحصار الذي تفرضه عليه نخبة وسائل الإعلام فإنه يقود استطلاعات الرأي العام، فما يحرك مؤيديه إيمانهم بأن جماعة من الليبراليين المتعلمين «أكثر مما يلزم» ولا يأبهون بهم يتولون إدارة البلاد... إذاً كيف في اعتقادكم ستكون ردود أفعالهم عندما تبتدع مجموعة من المحامين في المدن الكبيرة طرقا ذكية لجعل ترامب غير مؤهل لخوض الانتخابات الرئاسية؟
وكما أذكر في كتابي الجديد «عصر الثورات» يبدو ازدراء اليمين الشعبوي الجديد للديموقراطية الليبرالية مخيفا، فهو يشكل أخطر تهديد نواجهه لمستقبلنا السياسي، لكن اليسار أيضا له تجاوزاته في هذا الاتجاه، فالعديدون يريدون الاستغناء عن بعض قواعد وإجراءات الليبرالية، إنهم يريدون حظر أولئك الذين لديهم أفكار «خاطئة» عن الحديث، إنهم يريدون تحقيق المساواة العرقية عبر الحصص أو عبر التمثيل النسبي للجماعات العرقية في المؤسسات المختلفة أو من خلال اتخاذ قرارات سياسية وليس بالوسائل الليبرالية المعهودة.
إنهم يريدون استخدام التعليم أو الفن لتحقيق أهداف سياسية بدلا من أهداف تعليمية أو فنية، واقتناعا منهم بفضائل أفكارهم نظريا كحقوق طالبي اللجوء على سبيل المثال فإنهم يفرضونها على مجتمع يتردد في قبولها، لكن الأعمال الثورية التي تتنزل من أعلى الى أسفل سواء من يسار متصلب أو يمين رجعي كثيرا ما تتسبب بالمزيد من الاضطراب بدلا عن التقدم الى الأمام.
النسخة الترامبية للشعبوية اليمينية معادية لليبرالية وكارهة للأجانب وتدفع بأميركا نحو نهايات مظلمة، لكن السبيل إلى هزيمتها في نظام ديموقراطي ليبرالي ليس استخدام آليات قانونية تخرج ترامب من الملعب السياسي وتتجاهل وجود أو نفوذ أولئك الذين يؤيدونه، بل عن طريق مجادلة حلفائه وطرح مواقف قوية ومقنعة تُظهِر أن أميركا يمكنها معالجة مخاوفهم ومواجهة ترامب في ميدان المعركة السياسية وهزيمته.
* فريد زكريا