تستعين الشركات حول العالم بفريق يتكوّن من محامين ذَوي مهارة، لطلب المشورة القانونية في أمور الشركة المختلفة.

فوجود محامين أكفاء من الأمور الضرورية التي لا غنى عنها للشركات على اختلاف أنواعها، سواء كانت شركات مساهمة عامة مدرَجة في أسواق الأوراق المالية أم شركات خاصة غير مدرجة.

والمحامي النبيه هو الذي يقدِّم ما في جَعْبَته من خبرة ومهارة لحماية الشركة ومصالحها بوَصْفها كيانًا معنويًّا.

Ad

فمن ناحيةٍ يقترح حلولًا لمسائل آنية ويرسم أهدافًا لمعالجة مسائل آجلة تلوح في الأفق. ومن ناحية أخرى يُوجِدُ أفضلَ السبل التي يجب على الشركة أن تسلكها توفيرًا للوقت والجهد والنفقات.

فمحامي الشركة هو بحق مهندسُها الذي يبذل قصارى جهده للحيلولة دون تعقيد الأمور باختياره الحلولَ التي يترتب عليها أقل قدر من النتائج غير المقصودة.

وليس ثَمَّةَ تنظيمٌ أفضلُ من قواعد السلوك المهني التي وضعَتْها نقابة المحامين الأميركية American Bar Association Model Rules of Professional Conduct في هذا الشأن، إذ نصَّت القاعدةُ الثالثةَ عشْرةَ منها على الحدود التي ترسم طبيعة العلاقة بين الشركة ومحاميها.

تبدأ القاعدةُ بضرورة أن يسعى المحامي إلى المحافظة على مصالح الشركة قبْل كل شيء، بحيث إذا ما حدث تعارُضٌ بين مصالح الشركة وأحد موظفيها: أعضاء مجلس الإدارة أو أعضاء الإدارة التنفيذية، وَجَبَ على المحامي هنا، ومن غير أي تأخير، إبلاغُ أحدِ هؤلاء أنه يمثّل الشركة فقط ولا يمثلهم.

يشمل ذلك قيامَ أحدِ موظفي الشركة باستشارة محاميها في موضوع من المحتَمَل أن يرتِّب مسؤولية هذا الموظف أمام الشركة، كإهداره بَعْضَ أموالِها على نحوٍ لا يتّفق وسياستَها.

هنا، يُفْترض على المحامي إبلاغُ الموظف بعدم رغبته في استكمال الحديث معه، وبضرورة استشارة الموظف محاميًا آخرَ خاصًّا به، لوجود تعارُض مصالح فعليٍّ بين ما قام به الموظفُ وبين الشركة بوَصْفها كيانًا معنويًّا.

لكنْ يبقى التساؤل عن إذا ما سكت هذا الموظفُ ولم يَسْتَشِرْ مُحاميًا خاصًّا يمثله خارج الشركة بشأن واقعة الأموال المُهْدَرة، فما الإجراءُ الواجبُ أنْ يتَّبِعَه محامي الشركة هنا؟ تنص قواعدُ السلوك المهني على وجوب احترام قواعد الامتياز المتعلق بعدم الإفصاح عن المحادثات بين المحامي والموكِّل client Privilege Attorney- والسّرّيّة Confidentiality بين المحامي والموكِّلين المحتَمَل تمثيلهم Prospective Clients، حتّى ولو لم يُفْضِ هذا الاحتمالُ إلى نشوء تمثيلٍ قانونيّ على أرض الواقع.

من ثَمَّ، ومن الناحية النظرية، لا يستطيع المحامي إفشاءَ ما دار بينه وبين ذلك الموظف، التزامًا بقواعد الامتياز من حيثُ عدم الإفصاح والسّرّيّة.

ولكنْ عمليًّا، سمحت القواعدُ للمحامي هنا بتخطّيها إذا ما استشعر أنّ استمرار سكوته عن ذلك يُلْحق ضررًا بأموال الشركة.

فإذا ما قرَّر الموظف عدم المُضيّ قُدمًا في استشارة محامٍ آخرَ، وانتهى تقرير مراقب الحسابات بتبديد بعضِ الأموال، يستطيعُ محامي الشركة هنا إبلاغَ: رئيس مجلس إدارتها، نائبه، ورئيسها التنفيذي، استثناءً من قاعدة (عدم الإفصاح) الخاصة بالموكّلين المحتَمَلين.

في حقيقة الأمر، عُدِّلَتِ القاعدةُ الثالثةَ عشْرةَ حتى تتوسَّعَ في مفهوم الإبلاغ على حساب التزامَي الامتياز بعدم الإفصاح والسّرّيّة.

فإذا ما أبلغ المحامي السلطات العُليا في الشركة بشبهات جرائمَ ماليّةٍ في حق الشركة، أو بأيِّ فعلٍ من شأنه أن يهدِّد مصالحها أو مساهميها أو يُلْحق الضّرر بهم، ولم تتحرّكْ أعلى سلطة في الشركة باتّخاذ التدابير اللازمة لذلك، فإنه يكون للمحامي إبلاغ السلطات العامة في الدولة ذات العلاقة، كالنيابة العامة وهيئة أسواق المال وسوق الأوراق المالية، متجاوزًا ما يقع على عاتقه من التزامات.

كلُّ ذلك مرهونٌ بجلوس الإدارة العليا في الشركة في وضع المتفرج دون اتخاذ تدابيرَ جدّيّةٍ حقيقيّة.

وفي حال اتخاذها، فليس ثَمَّةَ أيُّ مسوِّغ قانونيّ للمحامي للإفصاح عن السّرّيّة، وإلا لعُدَّ مثلُ هذا الإفصاح انتهاكًا لحقوق موكّلته: الشركة.

هذا التعديلُ جاء بعد فضيحة شركة إينرون Enron Scandal التي حدثت عام 2001، عندما أنهى بعضُ المحامين علاقةَ الوكالة بينهم وبين الشركة، وفضّلوا التزامَ الصمت عوضًا عن إبلاغ السلطات العامة بشبهات الجرائم الّتي ارتَكَبَها مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية في الشركة بحُجّة التزامَي عدم الإفصاح والسّرّيّة.

لذلك، بعد سقوط «إينرون»، أصبح لزامًا على المحامينَ إبلاغُ السلطات العامة بتلك الجرائم حتى ولو أُنْهِيَتْ علاقة التمثيل دون أيّ اعتبار للسّرّيّة.

وأكثر من ذلك، وضع المشرّع الفدرالي الأميركي التزامًا على المحامين بتقديم بلاغاتٍ رسميّة ضدَّ مجالس إدارة الشركات والإدارات التنفيذية حمايةً للصّالح العامّ بقانون Sarbanes – Oxley Act of 2002 في حال لم تتّخذ تلك المجالسُ تدابيرَ جدّيّةً للمعالجة بعد بلاغ المحامين في هذا الشأن.

وفي الكويت، ما زال القانون رقم 42 لسنة 1962 في شأن تنظيم مهنة المحاماة أمام المحاكم، لا يحتوي على نصوصٍ من شأنها السماحُ للمحامي بإفشاء أسرار الشركات التي يمثلها قانونًا عند طلب إنهائه لهذا التمثيل، وإبلاغ السّلطات العُليا في الشركة بذلك، دون أن تتخذ تدابير ما في المقابل.

فما زال المحامي مُقيَّدًا بعدم الإفشاء التزامًا بالسّرّيّة حتى بعد انتهاء التمثيل، وإلا لوَقَع تحت طائلة الإخلال بأصول المهنة وشرفها عند إفشائه لتلك الأسرار، عوضًا عن المسؤولية المدنية المترتِّبة على ذلك، وَفْقًا لما نصّت عليه المادّة 35 من القانون نفسِه.

فما زال قانونُ تنظيم مهنة المحاماة الكويتي يمنع إفشاء أسرار الموكلين دون تحديدٍ لماهيّة هذه الأسرار أو استثناءاتها.

وفي منطقتنا، يُعَدّ قانون دولة الإمارات العربية المتحدة الاتحادي رقم 34 لسنة 2022 في شأن تنظيم مهنَتَي المحاماة والاستشارات القانونية مِنْ أحدث القوانين الّتي حدَّدَتْ بدقّة المسائلَ التي يجوز فيها للمحامي إفشاءُ الأسرار استثناءً، ولكنْ ليست بالعُمق الذي أتتْ به قواعدُ السلوك المهني لنقابة المحامين الأميركية.

* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال

كلية الحقوق - جامعة الكويت