في هذا المحور الذي أحسبه أبدع ما في الكتاب، أظهر المؤلفون التناقض بين المراحل التعليمية في اعتمادها المنهج التربوي الذي لا يقبله مَن مَنَّ الله عليه بعقل.
المناهج
فالمرحلتان الابتدائية والمتوسطة تتبعان منهج الكفايات، أما المرحلة الثانوية فتتبع منهج الأهداف، وبين المنهجين بونٌ شاسعٌ في الأصول الفلسفية، والأسس النفسية، والغايات التربوية، وفي ذلك خلقٌ لفجوة عميقة، بل هوَّة سحيقة بين مخرجات المراحل الدراسية، ومع وجود هذا التناقض المضحك المبكي لا يمكن القول بأننا نمتلك «نظاماً» تعليمياً، فليس من مواصفات أي نظام محترم أن تلعن أجزاؤه بعضها. فإذا غضضنا الطرف عن التناقض السابق، فماذا نصنع مع مسارات التعليم في المرحلة الثانوية المحصورة بين فرعين؛ علميٍّ وأدبيٍّ؟ وهما فرعان لا يستوعبان المجالات الرحبة للحياة، ولا يلبيان حاجات كثير من المتعلمين وما يخامر قلوبهم من شغف، وما يعتري عقولهم من فضول معرفي، كما أنهما بعيدان كل البُعد عن تطورات سوق العمل الذي انقرضت فيه كثير من المهن والوظائف المتفرعة عن هذين الفرعين، وتزداد قتامة الواقع حين ننظر في طبيعة تعليم هذين الفرعين، حيث سنجد التعليم البنكي (حسب تعريف باولو فريري)، القائم على سلطة المنهج والمعلم، الجاعل المتعلمَ مستقبلاً سلبياً مهمته الحفظ والتفريغ بخضوعٍ تامٍ للسلطة المفروضة عليه، وكل ذلك في سبيل تسجيل الإجابات المعلّبة على أوراق الاختبارات التي باتت الوسيلة الوحيدة لقياس تعلّم الطلاب، وهذا ما يجعل المعلومة محوراً للتعليم، في زمن تدعو فيه جميع فلسفات التربية إلى جعل المتعلم محوراً له.
مراعاة طبيعة المتعلمين
ومن باب التعمق في معالجة محور المناهج؛ يتساءل المؤلفون عن مدى ملاءمتها لخصائص الجيل الحالي من المتعلمين (جيل Z وa)، لأنّ من بدهيات تصميم المناهج مراعاة طبيعة المتعلمين وميولهم، وقد أسفرت تحليلاتهم عن انبتات العلاقة بين المناهج والأجيال التي تدرسها، فالجيلان المذكوران ذوا براعة في استخدام التكنولوجيا، ويتَّسمان بالانفتاح على التعلّم خارج غرف الدراسة وأسوار المدرسة، ويميل المنتمون لهذين الجيلين إلى تصميم خططهم الدراسية، ويتحمسون لقضايا البيئة والتكنولوجيا، ومثل هذه المواصفات تحتاج إلى مناهج مختلفة، ومعلمين قادرين على مواكبة تطورات العالم، وطرائق قياس منفتحة على الإبداع، وكل ذلك غير موجود في تعليمنا. ولا يقتصر إهمال حاجات هذا الجيل وصفاته على مستوى تصميم المناهج وتنفيذها في التعليم العام، بل ينسحب أيضاً على كليات إعداد المعلمين التي لا تعاني قصوراً في إعداد طلابها على التعامل مع هذا الجيل الذي ينتمي إليه طلاب تلك الكليات أنفسهم، فما ذكرته مبادرة «من هنا نبحر» من الاحتياجات التعليمية لهذا الجيل (التي لُخِّصت في 9 نقاط مهمة في الكتاب) بعيدٌ عمّا يحدث في كثير من مقررات إعداد المعلم، كما أن من أساتذة هذه الكليات مَن لا خبرة له في تلبية مثل هذه الاحتياجات، و«فاقد الشيء لا يعطيه».
وطرح المؤلفون قضية خطيرة تهدد تعلُّم الطلاب وهوياتهم الحضارية والثقافية، فقد عرضوا حال تعلُّم اللغة العربية التي لا يشعر الطلاب بجدواها في حياةٍ يسيطر عليها التفكير بسوق العمل الذي يقيم الوزن الأكبر للغة الإنكليزية، مع حرص أولياء الأمور على تعلُّم أبنائهم «الإنكليزية»، وإهمالهم تعلُّم «العربية»، وفي هذا الصدد يذكر المؤلفون أن الكويت تحتل المركز الأخير خليجياً في مقياس فقر التعلم، وأن 51 بالمئة من الطلاب في سن العاشرة لا يتمكنون من قراءة نصٍّ عربي قراءة صحيحة.
ومما ذكر في أسباب ذلك الضعف شح المواد القرائية المناسبة كالسلاسل المصورة ومجلات الأطفال وقصصهم، وهذا جعلني أستحضر تجربتي مع وزارة التربية، حين توجهت لاستحداث مكتبة في كل فصل دراسي بالكويت، حينها كُلِّفت باختيار العناوين المناسبة بمعيّة مجموعة من موجهي اللغة العربية، فعملنا بجهد جبار على اختيار 1800 عنوان من دور النشر العربية المختلفة، وصنّفناها حسب مناسبتها لكل مرحلة دراسية، مع التأكد - قدر الإمكان - من مناسبة محتويات تلك العناوين للمناهج الدراسية، ثم استوردنا الكميات المطلوبة من كل عنوان لتغطية كل فصول الكويت، على أن تضمّ مكتبة كل فصل ما لا يقل عن 200 عنوان، واشْتُرِيَت الخزائن بعدد الفصول لتحفظ تلك المكتبات الثمينة، وكعادة كل مشاريع الوزارة؛ انتهت القصة الدرامية لهذا المشروع بتوقّف التنفيذ، وأُهدِرَت الأموال المنفقة عليه، ثم دخلت الأعداد الهائلة من نسخ القصص والموسوعات في حيِّز الغيب، ولا أحسب أن الدرج ابتلعها، فالدرج أضيق من استيعاب كل ذلك الجَمال.
لا أشك في أن العقلية التي توقف مثل هذه المشاريع محكومةٌ بالتفكير في الاختبارات التي يجب ألّا تخرج عن الكتب المقررة، فهي أسيرة واضعي الكتب القديمة، وأسيرة الاختبارات البائسة، وأسيرة الخوف من التغيير للأفضل، لذا فإنهم لا يجدون بأساً في أن يكون الطلاب أسرى الكتب المقررة، أسرى الاختبارات الضعيفة، أسرى الإجابات النموذجية، بل إنهم بلغوا من ألفة ذلك الأسر مبلغاً جعلهم يخافون من أن يطوِّر الطالب فكره المستقل وأحكامه النقدية الحرّة، إنهم يخافون من الحرية عند وضع المنهج، ويخافون من الحرية عند تنفيذ المنهج، ويخافون من الحرية عند تقويم المنهج وتقييمه.
إن مثل هذه العقلية لا يمكن أن يُعَوَّل عليها في بناء مناهج تحرِّر الطالب، مناهج لا تريد تشكيل الطالب ليلائم القوالب الجاهزة، مناهج لا تكون أداة أسرٍ وتكبيل، بل أداة تحرير وإطلاق للقدرات الذهنية الكامنة، مناهج تقدّم خطابا يمكن تحليله للوقوف على معانيه ومحاكمتها، مناهج تكون نصوصها الواقع الاجتماعي نفسه، مناهج لا تسعى إلى ترسيخ الواقع، بل تغييره.
وللاقتراب من فهم طبيعة مثل تلك المناهج الموصوفة آنفا نستحضر ما أورده بيتر ماكلارين (أحد أعلام المدرسة النقدية في التربية)، يقول: عندما ندرّس الطلاب عن الحرب الفيتنامية، فإننا نوجههم نحو أهدافٍ جزئيةٍ تعتني بتاريخ الحرب وبأسبابها ونتائجها، وهذه الأهداف تروم إتقان الطلاب معلوماتٍ وبياناتٍ معيّنةٍ ليعيدوا إنتاجها، فالمعرفة هنا إنتاجية، ولكننا بحاجة إلى أهداف كليةٍ توجه الطلاب على نحوٍ مختلفٍ يطول العلاقة بين الحرب الفيتنامية وحروب أخرى شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، وتطول العلاقة بين الاقتصاد الأميركي والتصنيع الحربي في أميركا، وتفصح تلك الأهداف عن الفئة التي انتفعت من تلك الحرب، وعن الفوارق الطبقية بين الشباب الأميركيين الذين ذهبوا للحرب وأقرانهم ممن بقوا على مقاعد الدراسة في الجامعات.
إن أهدافاً كهذه لا تقود إلى معرفة تقنية، بل إلى معرفة توجيهية توجّه الطلاب نحو فحص اعتباراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، ولعله جليٌّ أن المعرفة التوجيهية هنا هي المعرفة الانعتاقية التي تحدث عنها باولو فريري في كتابه «تربية المقهورين».
ذوو الاحتياجات الخاصة
إن زيارة مؤلفي المبادرة لميناء ذوي الاحتياجات الخاصة كاشفة عن وعيهم بخطورة هذا الملف، وعلى الرغم من ذلك لم يقدموا وصفاً معمقاً لأحوالهم في البيئة التربوية، فقد اكتفوا باستعراض الشق القانوني المتمثل باتفاقيات دمج ذوي الإعاقة بالتعليم العام، وإنشاء بعض المراكز الخاصة لرعاية مواهبهم، ثم استعرضوا إحصاءات تعود إلى عام 2013 لأعداد ذوي الإعاقة المدموجين في المدارس العامة، مشيرين إلى غياب الإحصاءات الحديثة في هذا المجال، ثم أشاروا إلى تذمّر بعض أساتذة كلية التربية الأساسية من طبيعة هذا الدمج وواقعه، واصفين إياه بأنه عزلٌ لا دمج، لكنّ المؤلفين لم يبيِّنوا وجه العزل (مع قناعتي بصحة وفشل مشروع الدمج وآثاره السيئة، وأنه أدى للعزل لا الدمج).
وينبغي الالتفات إلى أن مفهوم الدمج لا يحظى بالإجماع في الدراسات التربوية، فمن الباحثين من يرى أن فكرة الدمج وتطبيقاتها في الدول الرائدة في هذا المجال غير فاعلة، بل إن لها نتائج خطيرة على التكوين النفسي للأطفال وعلى تحصيلهم الدراسي، فإذا كانت هذه حال الدمج في الدول المتقدمة التي أعدَّت متخصصيها للعمل في هذا المشروع، فكيف بحال الدول العربية التي عودتنا على التطبيق الشكلي لمشروعات مثل هذه؟
إدماج ثقافي
لقد أثارتني هذه القضية حين اطلعت على تلك الدراسات الناقدة للدمج في الفصول، فاستحثَّني ذلك للتفكير في الدمج من منظورٍ آخر قلَّما تطرَّقت له الدراسات العلمية في مجال التربية الخاصة، فكان نتاج ذلك دراسة قدمتها بعنوان «تصوّرٌ مقترح للإدماج الثقافي بين الأطفال العاديين وذوي الاحتياجات الخاصة في كتابة قصص الأطفال... رؤية مستقبلية»، وفي هذا العمل طُرِح مفهوم الإدماج الثقافي ليس بين جدران الفصول الدراسية، بل في فضاء أدب الأطفال العربي، فدرست ما أنتجته المكتبة العربية من قصص حول ذوي الاحتياجات الخاصة، ومدى إسهام ذلك الأدب في تحقيق مفهوم الإدماج الثقافي بين الأطفال العاديين والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
ثم أجريت تجربة تقوم على مفهوم الإدماج الثقافي الذي يهدف إلى إيجاد مساحة مشتركة من المطبوعات التي يمكن لجميع الفئات قراءتها، لا فرق في ذلك بين الطفل العادي والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة بمختلف فئاتهم، مساحة تخلق حيِّزاً ثقافياً مشتركاً بينهم، وخيالاً أدبياً جمعياً يكون أساساً للاندماج الثقافي، وعليه أصدرت قصة كُتِبَتْ بحروف اللغة العربية، ورموز لغة برايل للمكفوفين، وإشارات لغة الصم والبكم، ورموز ماكتون اللغوية، حتى يكون هذا العمل قابلا للقراءة لدى جميع الفئات، فضلاً عن تلك الفئات المظلومة في عالم أدب الطفل الذي يكتب عنها ولا يكتب لها، وأرى أن مثل هذه التجارب لو عمِّمت لكانت شرارة لإحداث اندماج ثقافي معرفي حقيقي لا تحصره الجدران ولا أسوار المدارس.
المواطنة البيئية
أما البيئة - كما بيّنت المبادرة - فقد عانت في مناهجنا ما تعانيه من سلوكنا في الخارج، فقد لوثنا التربية البيئية بما سكبنا في مناهجنا من معلومات معقدة تخنق الطالب ذلك الكائن الحي الذي يرتبط مصيره بمصير البيئة، ولإزالة ذلك التلوث لا بدّ من استدعاء الجوانب الاجتماعية لعلوم البيئة، فتعرّف المتعلم الأدوات السياسية والاجتماعية التي تتيح ميداناً للحراك البيئي الواعي، وخلق وعي مجتمعي دافع للشراكة والتضامن في سبيل معالجة قضايا البيئة ومشكلاتها، ومثل تلك الغايات لا تتحقق في مثل مناهجنا التعيسة بفلسفتها المتخلفة، فهي تستلزم مناهج مختلفة بأساليب تدريس عملية كالورش التفاعلية، والعروض التقديمية، والرحلات الميدانية للمواقع الطبيعية ومحميات الحياة البرية، والبرامج البيئية التطوعية، على ألا تكون غاية كل ذلك حل أسئلة اختباراتنا السطحية، بل تحقيق وعي عميق بأهمية البيئة المحلية والعالمية، تمهيداً لترسيخ مبادئ المواطنة البيئية.
* أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت
المناهج
فالمرحلتان الابتدائية والمتوسطة تتبعان منهج الكفايات، أما المرحلة الثانوية فتتبع منهج الأهداف، وبين المنهجين بونٌ شاسعٌ في الأصول الفلسفية، والأسس النفسية، والغايات التربوية، وفي ذلك خلقٌ لفجوة عميقة، بل هوَّة سحيقة بين مخرجات المراحل الدراسية، ومع وجود هذا التناقض المضحك المبكي لا يمكن القول بأننا نمتلك «نظاماً» تعليمياً، فليس من مواصفات أي نظام محترم أن تلعن أجزاؤه بعضها. فإذا غضضنا الطرف عن التناقض السابق، فماذا نصنع مع مسارات التعليم في المرحلة الثانوية المحصورة بين فرعين؛ علميٍّ وأدبيٍّ؟ وهما فرعان لا يستوعبان المجالات الرحبة للحياة، ولا يلبيان حاجات كثير من المتعلمين وما يخامر قلوبهم من شغف، وما يعتري عقولهم من فضول معرفي، كما أنهما بعيدان كل البُعد عن تطورات سوق العمل الذي انقرضت فيه كثير من المهن والوظائف المتفرعة عن هذين الفرعين، وتزداد قتامة الواقع حين ننظر في طبيعة تعليم هذين الفرعين، حيث سنجد التعليم البنكي (حسب تعريف باولو فريري)، القائم على سلطة المنهج والمعلم، الجاعل المتعلمَ مستقبلاً سلبياً مهمته الحفظ والتفريغ بخضوعٍ تامٍ للسلطة المفروضة عليه، وكل ذلك في سبيل تسجيل الإجابات المعلّبة على أوراق الاختبارات التي باتت الوسيلة الوحيدة لقياس تعلّم الطلاب، وهذا ما يجعل المعلومة محوراً للتعليم، في زمن تدعو فيه جميع فلسفات التربية إلى جعل المتعلم محوراً له.
مراعاة طبيعة المتعلمين
ومن باب التعمق في معالجة محور المناهج؛ يتساءل المؤلفون عن مدى ملاءمتها لخصائص الجيل الحالي من المتعلمين (جيل Z وa)، لأنّ من بدهيات تصميم المناهج مراعاة طبيعة المتعلمين وميولهم، وقد أسفرت تحليلاتهم عن انبتات العلاقة بين المناهج والأجيال التي تدرسها، فالجيلان المذكوران ذوا براعة في استخدام التكنولوجيا، ويتَّسمان بالانفتاح على التعلّم خارج غرف الدراسة وأسوار المدرسة، ويميل المنتمون لهذين الجيلين إلى تصميم خططهم الدراسية، ويتحمسون لقضايا البيئة والتكنولوجيا، ومثل هذه المواصفات تحتاج إلى مناهج مختلفة، ومعلمين قادرين على مواكبة تطورات العالم، وطرائق قياس منفتحة على الإبداع، وكل ذلك غير موجود في تعليمنا.
وطرح المؤلفون قضية خطيرة تهدد تعلُّم الطلاب وهوياتهم الحضارية والثقافية، فقد عرضوا حال تعلُّم اللغة العربية التي لا يشعر الطلاب بجدواها في حياةٍ يسيطر عليها التفكير بسوق العمل الذي يقيم الوزن الأكبر للغة الإنكليزية، مع حرص أولياء الأمور على تعلُّم أبنائهم «الإنكليزية»، وإهمالهم تعلُّم «العربية»، وفي هذا الصدد يذكر المؤلفون أن الكويت تحتل المركز الأخير خليجياً في مقياس فقر التعلم، وأن 51 بالمئة من الطلاب في سن العاشرة لا يتمكنون من قراءة نصٍّ عربي قراءة صحيحة.
ومما ذكر في أسباب ذلك الضعف شح المواد القرائية المناسبة كالسلاسل المصورة ومجلات الأطفال وقصصهم، وهذا جعلني أستحضر تجربتي مع وزارة التربية، حين توجهت لاستحداث مكتبة في كل فصل دراسي بالكويت، حينها كُلِّفت باختيار العناوين المناسبة بمعيّة مجموعة من موجهي اللغة العربية، فعملنا بجهد جبار على اختيار 1800 عنوان من دور النشر العربية المختلفة، وصنّفناها حسب مناسبتها لكل مرحلة دراسية، مع التأكد - قدر الإمكان - من مناسبة محتويات تلك العناوين للمناهج الدراسية، ثم استوردنا الكميات المطلوبة من كل عنوان لتغطية كل فصول الكويت، على أن تضمّ مكتبة كل فصل ما لا يقل عن 200 عنوان، واشْتُرِيَت الخزائن بعدد الفصول لتحفظ تلك المكتبات الثمينة، وكعادة كل مشاريع الوزارة؛ انتهت القصة الدرامية لهذا المشروع بتوقّف التنفيذ، وأُهدِرَت الأموال المنفقة عليه، ثم دخلت الأعداد الهائلة من نسخ القصص والموسوعات في حيِّز الغيب، ولا أحسب أن الدرج ابتلعها، فالدرج أضيق من استيعاب كل ذلك الجَمال.
لا أشك في أن العقلية التي توقف مثل هذه المشاريع محكومةٌ بالتفكير في الاختبارات التي يجب ألّا تخرج عن الكتب المقررة، فهي أسيرة واضعي الكتب القديمة، وأسيرة الاختبارات البائسة، وأسيرة الخوف من التغيير للأفضل، لذا فإنهم لا يجدون بأساً في أن يكون الطلاب أسرى الكتب المقررة، أسرى الاختبارات الضعيفة، أسرى الإجابات النموذجية، بل إنهم بلغوا من ألفة ذلك الأسر مبلغاً جعلهم يخافون من أن يطوِّر الطالب فكره المستقل وأحكامه النقدية الحرّة، إنهم يخافون من الحرية عند وضع المنهج، ويخافون من الحرية عند تنفيذ المنهج، ويخافون من الحرية عند تقويم المنهج وتقييمه.
إن مثل هذه العقلية لا يمكن أن يُعَوَّل عليها في بناء مناهج تحرِّر الطالب، مناهج لا تريد تشكيل الطالب ليلائم القوالب الجاهزة، مناهج لا تكون أداة أسرٍ وتكبيل، بل أداة تحرير وإطلاق للقدرات الذهنية الكامنة، مناهج تقدّم خطابا يمكن تحليله للوقوف على معانيه ومحاكمتها، مناهج تكون نصوصها الواقع الاجتماعي نفسه، مناهج لا تسعى إلى ترسيخ الواقع، بل تغييره.
وللاقتراب من فهم طبيعة مثل تلك المناهج الموصوفة آنفا نستحضر ما أورده بيتر ماكلارين (أحد أعلام المدرسة النقدية في التربية)، يقول: عندما ندرّس الطلاب عن الحرب الفيتنامية، فإننا نوجههم نحو أهدافٍ جزئيةٍ تعتني بتاريخ الحرب وبأسبابها ونتائجها، وهذه الأهداف تروم إتقان الطلاب معلوماتٍ وبياناتٍ معيّنةٍ ليعيدوا إنتاجها، فالمعرفة هنا إنتاجية، ولكننا بحاجة إلى أهداف كليةٍ توجه الطلاب على نحوٍ مختلفٍ يطول العلاقة بين الحرب الفيتنامية وحروب أخرى شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، وتطول العلاقة بين الاقتصاد الأميركي والتصنيع الحربي في أميركا، وتفصح تلك الأهداف عن الفئة التي انتفعت من تلك الحرب، وعن الفوارق الطبقية بين الشباب الأميركيين الذين ذهبوا للحرب وأقرانهم ممن بقوا على مقاعد الدراسة في الجامعات.
إن أهدافاً كهذه لا تقود إلى معرفة تقنية، بل إلى معرفة توجيهية توجّه الطلاب نحو فحص اعتباراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، ولعله جليٌّ أن المعرفة التوجيهية هنا هي المعرفة الانعتاقية التي تحدث عنها باولو فريري في كتابه «تربية المقهورين».
ذوو الاحتياجات الخاصة
إن زيارة مؤلفي المبادرة لميناء ذوي الاحتياجات الخاصة كاشفة عن وعيهم بخطورة هذا الملف، وعلى الرغم من ذلك لم يقدموا وصفاً معمقاً لأحوالهم في البيئة التربوية، فقد اكتفوا باستعراض الشق القانوني المتمثل باتفاقيات دمج ذوي الإعاقة بالتعليم العام، وإنشاء بعض المراكز الخاصة لرعاية مواهبهم، ثم استعرضوا إحصاءات تعود إلى عام 2013 لأعداد ذوي الإعاقة المدموجين في المدارس العامة، مشيرين إلى غياب الإحصاءات الحديثة في هذا المجال، ثم أشاروا إلى تذمّر بعض أساتذة كلية التربية الأساسية من طبيعة هذا الدمج وواقعه، واصفين إياه بأنه عزلٌ لا دمج، لكنّ المؤلفين لم يبيِّنوا وجه العزل (مع قناعتي بصحة وفشل مشروع الدمج وآثاره السيئة، وأنه أدى للعزل لا الدمج).
وينبغي الالتفات إلى أن مفهوم الدمج لا يحظى بالإجماع في الدراسات التربوية، فمن الباحثين من يرى أن فكرة الدمج وتطبيقاتها في الدول الرائدة في هذا المجال غير فاعلة، بل إن لها نتائج خطيرة على التكوين النفسي للأطفال وعلى تحصيلهم الدراسي، فإذا كانت هذه حال الدمج في الدول المتقدمة التي أعدَّت متخصصيها للعمل في هذا المشروع، فكيف بحال الدول العربية التي عودتنا على التطبيق الشكلي لمشروعات مثل هذه؟
إدماج ثقافي
لقد أثارتني هذه القضية حين اطلعت على تلك الدراسات الناقدة للدمج في الفصول، فاستحثَّني ذلك للتفكير في الدمج من منظورٍ آخر قلَّما تطرَّقت له الدراسات العلمية في مجال التربية الخاصة، فكان نتاج ذلك دراسة قدمتها بعنوان «تصوّرٌ مقترح للإدماج الثقافي بين الأطفال العاديين وذوي الاحتياجات الخاصة في كتابة قصص الأطفال... رؤية مستقبلية»، وفي هذا العمل طُرِح مفهوم الإدماج الثقافي ليس بين جدران الفصول الدراسية، بل في فضاء أدب الأطفال العربي، فدرست ما أنتجته المكتبة العربية من قصص حول ذوي الاحتياجات الخاصة، ومدى إسهام ذلك الأدب في تحقيق مفهوم الإدماج الثقافي بين الأطفال العاديين والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
ثم أجريت تجربة تقوم على مفهوم الإدماج الثقافي الذي يهدف إلى إيجاد مساحة مشتركة من المطبوعات التي يمكن لجميع الفئات قراءتها، لا فرق في ذلك بين الطفل العادي والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة بمختلف فئاتهم، مساحة تخلق حيِّزاً ثقافياً مشتركاً بينهم، وخيالاً أدبياً جمعياً يكون أساساً للاندماج الثقافي، وعليه أصدرت قصة كُتِبَتْ بحروف اللغة العربية، ورموز لغة برايل للمكفوفين، وإشارات لغة الصم والبكم، ورموز ماكتون اللغوية، حتى يكون هذا العمل قابلا للقراءة لدى جميع الفئات، فضلاً عن تلك الفئات المظلومة في عالم أدب الطفل الذي يكتب عنها ولا يكتب لها، وأرى أن مثل هذه التجارب لو عمِّمت لكانت شرارة لإحداث اندماج ثقافي معرفي حقيقي لا تحصره الجدران ولا أسوار المدارس.
المواطنة البيئية
أما البيئة - كما بيّنت المبادرة - فقد عانت في مناهجنا ما تعانيه من سلوكنا في الخارج، فقد لوثنا التربية البيئية بما سكبنا في مناهجنا من معلومات معقدة تخنق الطالب ذلك الكائن الحي الذي يرتبط مصيره بمصير البيئة، ولإزالة ذلك التلوث لا بدّ من استدعاء الجوانب الاجتماعية لعلوم البيئة، فتعرّف المتعلم الأدوات السياسية والاجتماعية التي تتيح ميداناً للحراك البيئي الواعي، وخلق وعي مجتمعي دافع للشراكة والتضامن في سبيل معالجة قضايا البيئة ومشكلاتها، ومثل تلك الغايات لا تتحقق في مثل مناهجنا التعيسة بفلسفتها المتخلفة، فهي تستلزم مناهج مختلفة بأساليب تدريس عملية كالورش التفاعلية، والعروض التقديمية، والرحلات الميدانية للمواقع الطبيعية ومحميات الحياة البرية، والبرامج البيئية التطوعية، على ألا تكون غاية كل ذلك حل أسئلة اختباراتنا السطحية، بل تحقيق وعي عميق بأهمية البيئة المحلية والعالمية، تمهيداً لترسيخ مبادئ المواطنة البيئية.
تعليمٌ عالٍ بلا علو في جامعة كانت قِبلة المفكرين! |
لمّا كانت نتائج التعليم الموصوف آنفاً محتاجة إلى شهادة جامعية تضمن حقَّها في الريع؛ كان من المنطقي أن ينتقل ملّاحو المبادرة إلى موانئ التعليم العالي بجامعاته وكلياته ومعاهده، وأوّل ما يقابلنا في هذا المحور جامعة الكويت، حاملة مشعل المعرفة والتنوير في الخليج العربي (سابقاً)، فبعد أن كانت أقسامها العلمية عامة، وأقسام اللغة العربية والفلسفة والتاريخ خاصة، قِبلة للمفكرين الكبار في العالم العربي، ومقصداً للمتخصصين الذين تركوا بصمات لا يمحوها الدهر في الثقافة العربية، وموئلاً لأعضاء هيئة التدريس من كل مُتَفرِّدٍ بعلمه وعطائه، بعد ذلك الماضي الجميل انحدرت هذه المؤسسة العظيمة من بعد الغزو، وواصلت سقوطها الحُر عبر السنوات وصولاً إلى اليوم، وقد بدأ كل ذلك حين طغى معيار الجنسية على معيار الكفاءة، وبرزت إلى السطح ثنائية الكويتي والوافد، فتدخّل في شؤون الجامعة كل مسؤولٍ جاهل، ومتنفذٍ فاسد، ونواب مجلس الأمة الذين لا يشترط فيهم غير معرفة القراءة والكتابة، فتسلل غير الأكفاء إلى أقسامها، ثم أخذوا يتسنّمون مناصبها الإدارية، ولأن شبيه الشيء منجذبٌ إليه، فإن هذه الطبقة حرصت على إعادة إنتاج نفسها في الجامعة، لتكون لها الغلبة في أي لجنة معنيّة باتخاذ القرارات المصيرية. وكان من نتاج ذلك ما رصدته المبادرة من ضعفٍ اعترى إنتاج الجامعة العلمي، لأن البيئة البحثية لا تدعمها إلا رغبات أعضاء هيئة التدريس في الترقي الذي يضمن مزيداً من المناصب وارتفاعاً في الرواتب، مما جعل كثيراً من بحوثهم واهياً غير مؤثّر ولا مضيفٍ للمعرفة الإنسانية، ومعظمها لا علاقة له بالأولويات البحثية العالمية أو التحديات المستقبلية التي تتنافس جامعات العالم في معالجتها بأبحاث أساتذتها. وعندما رست سفينة المبادرة على رصيف التعليم التطبيقي؛ وجد المؤلفون هوّة بين مخرجات هذا التعليم وخطط التنمية المستدامة، وشدَّدت على ضرورة تطوير التعليم التطبيقي ليكون إحدى الدعائم الرئيسة لتحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ حقيقي، وتنويع مصادر الدخل، والحد من الاعتماد المفرط على عائدات النفط، وليس بغريب أن تلجأ الدول إلى مثل هذا الحل لتحقيق مثل هذه الأهداف، ففي دول العالم شواهد عديدة على هذا التوجه، وأهمها التجربة الصينية التي بدأت تحوِّل الجامعات إلى معاهد خاصة بالتعليم المهني والتطبيقي، لما وجدته من ارتباطٍ وثيق بين هذا التعليم والنمو الاقتصادي، ولتصحيح مسار التعليم التطبيقي قدّمت المبادرة توصيات عديدة يمكن الاطلاع عليها في الصفحة 139. |
* أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت