فتحت المساجلة العلنية بين النائب شعيب المويزري والناطق الرسمي باسم الحكومة عامر العجمي، بشأن دراسة وزارة المالية مسألة زياده أسعار الوقود بنسبة 25 في المئة، الباب لتسليط الضوء على الاختلال في التعامل مع ملف الدعوم في البلاد.
ولعل مناقشة مسألة الدعومات وتكاليفها وجودة توجيهها - وهي على ما يبدو في مراحلها الأولى - تُعد واحدة من الموضوعات الشائكة، كون زيادة أسعار المحروقات، وأهمها في الكويت البنزين، تُعد مسألة جيدة من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فهي تعبِّر عن قصورٍ في فهم أولويات الإصلاح الاقتصادي والمالي من حيث عدم أولويتها، ومحدودية منفعتها، وأحادية معالجتها، وحساسية أثرها على السوق والمستهلكين، فضلاً عن كونها تمثل تحميلاً مباشراً للمجتمع عن إخفاقات الإدارة العامة الممتدة منذ سنوات.
الأولوية لكبح المصروفات مع تصاعد سعر برميل النفط الكويتي فوق 90 دولاراً
ما الأولوية؟
فالأولوية اليوم ليست في تحقيق وفورات مالية من إعادة تسعير سلعة أو خدمة حكومية، فالدولة ليس من مهامها مجرد جباية الأموال إنما إصلاح الاقتصاد، الذي يتطلب اليوم حماية المالية العامة من المزيد من انفلات المصروفات، بالتوازي مع بلوغ سعر النفط الكويتي 90 دولاراً للبرميل، ملامساً سعر التعادل المقرر في ميزانية 2024-2025، البالغ 90.7 دولاراً للبرميل، في ظل تنامي الموجة الشعبوية في البرلمان لتمرير عددٍ من المقترحات تحت عنوان «تحسين المستوى المعيشي للمواطنين»، يقابلها صمت من الفريق الاقتصادي الحكومي الفني - ممثلاً في وزارتَي المالية والتجارة، والبنك المركزي، والتأمينات والإحصاء - في بيان أن رفع المستوى المعيشي يستوجب اتخاذ إجراءات تتعلَّق بتعزيز جودة الخدمات العامة، كالسكن، والتعليم، والصحة، والطُّرق، والتوسع في التكنولوجيا، والحد من التضخم، وتحسين البيئة، وتسهيل بيئة الأعمال، وغيرها، وليس بالضرورة توزيع الأموال على المواطنين دون ضمان تحقيق المنفعة المرجوة.
وفورات وترشيد
بل إن إجراء زيادة أسعار البنزين بنسبة 25 في المئة قد يفضي في أفضل الأحوال إلى تحقيق وفورات مالية بقيمة 200 مليون دينار، وهو مبلغ يمكن من خلال ترشيد الهدر في مصروفات الميزانية تحقيقه بجهدٍ لا يتطلب الكثير من المواجهة مع المجتمع، فعند الاطلاع على آخر مصروفات منشورة للحساب الختامي 2022 -2023 نجد أن مصروفات تصل قيمتها إلى مئات الملايين من الدنانير من الأدوات المكتبية، مروراً بالاستشارات والمهمات، وصولاً إلى المزايا المُبالغ فيها للقياديين، والتوسع في الهيئات المستقلة والأجهزة الخاصة، من المفترض مراجعتها دون أن تؤثر على الخدمة العامة.
ولعل الحديث عن الحسابات الختامية يدعو إلى إعادة النظر مجدداً في مشروع ميزانية 2024 -2025، والتي تعبِّر عن حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي يؤثر على جودة الإدارة والاقتصاد، فهذه الميزانية قيمتها 24.5 مليار دينار أعدَّتها حكومة الشيخ أحمد النواف، وأقرَّتها حكومة الشيخ د. محمد الصباح، ومن المقرر أن تعتمدها حكومة الشيخ أحمد العبدالله، بعد إتمام تشكيل الحكومة المكلف رئاستها.
مراجعة الميزانية
وبكل الأحوال، فإن مهمة مراجعة ميزانية الدولة، بالتوازي مع ارتفاع أسعار النفط، تُعد أولوية قصوى أكثر من رفع أسعار البنزين. فالميزانية المقترحة تحتاج إلى قدرٍ أعلى من التحوط، ليس في جانب المصروفات فقط، بل أيضاً من جهة إعادة تفعيل بند تحويل 10 في المئة من الإيرادات النفطية إلى صندوق احتياطي الأجيال، مع وضع سقف إنفاق لا يمكن تجاوزه لـ 3 سنوات قادمة مُحدَّدة فيه بنود صارمة لمصروفات الرواتب والدعوم والإنفاق الرأسمالي، وهي إجراءات أساسية وأكثر استدامة من معالجة بند الدعوم بكامله، وليس مجرَّد سلعة البنزين.
الصيغة الأحادية
كذلك من المهم ألا تكون أي معالجة مالية أو اقتصادية ذات صيغة أحادية، بل ضمن مشروع متكامل متعدد المراحل يطلع عليه المجتمع، ويقيِّمه، وتسوِّقه مؤسسات الدولة الاقتصادية، فمعالجة ملف الدعوم تحتاج إلى سياسة عامة في إعادة توجيه الدعم نحو مستحقيه من الطبقة المتوسطة فأقل، وتحديد الفروقات بين الدعومات الموجهة للشركات والأعمال مع الدعومات الموجهة للمواطنين.
وبالتالي، فإن طرح أي مشروع إصلاحي بشكل مجتزأ لن يجد القبول الشعبي لدى الرأي العام، كما أنه من المهم أن يرتبط أي قرارٍ يمس السلع والمستهلكين بدراسات عن الآثار التضخمية المتوقعة، وكيفية كبحها، لا سيما عندما يرتبط الأمر بالبنزين، مثلاً، ومدى آثاره على أسعار النقل والشحن وسوق توصيل الطلبات وهكذا.
هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها البنزين كأحد حلول المعالجة الاقتصادية في البلاد، إذ أقر مجلس الوزراء في عام 2016 رفعاً لأسعار البنزين، ومذاك ارتفعت مصروفات الميزانية العامة بنحو 50 في المئة، وبالتالي لا قيمة حقيقية لأي رفعٍ للأسعار، ما لم يكن ضمن سياسة عامة تراعي أموراً عديدة، كضبط الإنفاق، أو تقليص التداعيات في السوق.
تكلفة ارتفاع النفط
المتابع لسلسلة ارتفاعات النفط خلال السنوات الأخيرة الماضية، خصوصاً في ظل العوامل المستحدثة على أسواق الطاقة، كاتفاقات خفض الإنتاج ضمن مجموعة «أوبك بلس»، أو تأثيرات التوترات الجيوسياسية بالمنطقة، كالحرب الروسية- الأوكرانية، مروراً بتطورات العدوان الإسرائيلي على غزة، وعمليات البحر الأحمر، وصولاً إلى أول مواجهة عسكرية مباشرة، وإن كانت محدودة، بين إسرائيل وإيران، يجد أن ارتفاع أسعار النفط غالباً ما يفضي إلى تحميل الخزانة العامة أعباءً مالية إضافية تُستخدم غالباً كإبر بنج لتجاوز الأزمات السياسية، فضلاً عن أن ارتفاع أسعار النفط ثبت في أكثر من مناسبة أنه يقوِّض أي محفزٍ للإصلاح المالي أو الإداري أو الاقتصادي، إذ تتراجع كل مفاهيم الإصلاح، ويعمل بعكسها، فيتم التساهل مع ضخامة حجم القطاع العام، بكل ما فيه من شحم متراكم للهيئات والأجهزة الحكومية التي ثبت ضعف فاعليتها، ناهيك عن إهمال معالجة اختلالات سوق العمل، وتكديس مئات الآلاف من المواطنين بالوظيفة الحكومية، بدلاً من رفع جاذبية العمل بالقطاع الخاص، لا سيما قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
كما أن سعر برميل نفط مرتفع سيشجع على التوسع في الإنفاق على المناقصات دون عائدٍ اقتصادي يتعلَّق بتوفير فُرص عمل للشباب الكويتيين، أو تمويل الخزينة العامة بالضريبة، فضلاً عن استمرار التعامل مع الإنفاق المالي كإبرة بنج لتراجع جودة الخدمات، كالتعليم، والصحة، والإسكان، والطُّرق، بل وحتى أهمية معالجة التضخم.
هذه مجموعة من التحديات الحقيقية في الفترة الحالية. وبالتالي، فإن أقل ما نحتاجه اليوم، هو أن نستهلك الجهد الأكبر في قضية محدودة الأثر بعيدة الأولوية، كتحريك أسعار البنزين في السوق الكويتي.