هل صنع عبدالمطلب مجده أم أن القدر انفرد بذلك؟!
يعد «سيد البطحاء» عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب ربيب يثرب على أرضها وبين ربوعها ولد، وقضى شطراً من طفولته عزيزاً منيعاً في كنف أخواله من بني النجار بعيداً عن حضن أبيه، حتى شاءت المصادفات أن ينتقل إلى مكة ليكمل حياته فيها قريباً من دائرة الزعامة، وهناك في البلد الحرام دارت رحى الأحداث الغريبة المنطق، العظيمة الوقع في فلك ابن هاشم لتحلق به عالياً في سماء الوجاهة، ولتخلق حوله هالة مشعة من الهيبة.
نال الفياض شرف إعادة حفر زمزم، وذلك في مشهد تاريخي فريد محبوك، تناوب على بطولته مخلوقات شتى ساهمت بدورها في الاستدلال على البئر المفقودة، ومن هنا كانت البداية التي بفضلها تعاظم شأن عبدالمطلب، فأصبح يشار إليه بالبنان، هذا هو المختار من فوق سبع سموات الذي ألهم مكان البئر دوناً عن سائر الملأ، هذا هو شيبة الحمد، ونعبر بالزمن من هذه الواقعة إلى حادثة الوفاء بالنذر إلا أننا هنا سننزل راجلين، حيث ستحط أقدامنا في مساكن مكة لنعيش قريباً مما سيحدث بعد قليل.
إنه نهار يوم عادي، الهدوء يغشى القرية، فتلك الكعبة تقف شامخة في بطن الوادي تلتف حولها آلهة القوم، وأولئك الناس ينتشرون في السكك والطرقات، لا شيء يستدعي القلق، إلا أننا بعد حين نلحظ حركة غريبة ناحية البيت! فعبدالمطلب يتقدم أبناءه العشرة متجهاً الى هُبل ليغيب حيناً من الوقت، ثم يخرج من عند صاحب القداح ممسكاً بيد أصغر أبنائه وبيده الأخرى يحمل سكيناً! يمر علينا بهذا المنظر بخطى سريعة وعلى الفور يهب القوم وقوفاً للحاق به، فما إن أدركوه حتى تحلقوا حوله يسألونه بتوجس عن وجهته فيجيب: بأنه ذاهب لذبح ابنه!
طار عقل الجميع، وكثرت الأيادي الملوحة في وجه سيد مكة لصده عن عزمه، إلا أنه بدأ يباشر مراسم الذبح غير آبه بالمناشدات ليرتفع بعدها الصراخ، فيتدخل أحد الحضور ليجر الذبيح من قبضة أبيه، وبعد شد وجذب استتب الرأي على ضرورة الاحتكام الى عرافة الحجاز التي بفضلها تم بالفعل إنقاذ رأس عبدالله، وذلك بفداء عظيم البخت، ليسدل الستار على حادثة النذر، وتكشف الأيام في إحدى طياتها عن أحدوثة غير مسبوقة، فمن ناحية سد مأرب يظهر الملك الحبشي بصحبة «محمود» تلك الدابة العظيمة التي لم تألفها العرب قط، جاراً وراءه جيشاً لهدم مزارهم المقدس متحدياً هذه الأمة التي تعيش شذر مذر في تلك الأصقاع.
فما إن حطت رحاله على أطراف البلد المنشود حتى تم ترتيب اللقاء بينه وبين الشيخ القرشي سيد مكة الذي أطل عليه بملامح عربية ذات وسامة لافتة وسحنة تعتريها الهيبة ويعتليها الوقار، وبعد مفاوضات انفض الاجتماع، وانتهى بتسليم أم القرى ورد الإبل إلى صاحبها، أما البيت الحرام فقد ظل وحيداً في مواجهة جيش الملك في حين نزح أهل الوادي إلى رؤوس الجبال ليكونوا شاهدين أحياء على عام جديد ستؤرخ به العرب أيامها والذي انتهت أحداثه بتأكيد نبوءة عبدالمطلب للأشرم حين قال: «أنا رب الإبل... وللبيت رب يحميه».