استخدم مصطلح «صعود الصين» على نطاق واسع، للإشارة إلى النمو الكبير والسريع للصين على الساحة العالمية. وفي وقت لا يزال الاقتصاد العالمي يكافح من أجل التعافي بعد جائحة كوفيد، وما تبعها من هزات جيوسياسية مع عودة «لعبة القوى الكبرى» واندلاع الحرب في أوكرانيا على حدود أوروبا وفي الشرق الأوسط، تجد الصين نفسها أمام تحديات اقتصادية حقيقية ومتنوعة، فيما تلقى منطقة شينجيانغ في شمال غرب الصين اهتماماً متزايداً على اعتبار أنها قد تشهد المعجزة الصينية المقبلة تنموياً واقتصادياً.
وبالتزامن مع عيد الفطر المبارك، زارت «الجريدة» للمرة الثانية في أقل من عام، منطقة شينجيانغ الإيغورية ذاتية الحكم، للمشاركة في جولة إعلامية مع وفد دولي ضم إعلاميين وكتابا ومؤثرين من عدة دول، بينها الكويت والسعودية والبحرين وعمان والمغرب، وكندا وأستراليا والسويد وتايلند ودول من آسيا الوسطى. وشملت الزيارة لقاءات مع مسؤولين من مختلف المستويات، وندوات ومحاضرات مع خبراء في الأمن والاقتصاد والتاريخ، وزيارات ميدانية لبعض منشآت الخدمات العامة والمشاريع التنموية، فضلاً عن المشاركة في احتفالات عيد الفطر التي يحتفظ مسلمو المنطقة بتقاليدها منذ مئات السنين.
سرديتان
تعيش في الصين 56 قومية غالبيتهم من قومية الهان، وهذه القوميات موجودة كلها في شينجيانغ، التي تسكنها نحو 25 مليون نسمة، أقل من نصفهم بقليل من الإيغور، والجزء الثاني من الهان، مع وجود أقليات صغيرة من باقي القوميات، بما في ذلك العرقية المنغولية والطاجيك وغيرهم، وقد ارتبط اسم شينجيانغ بالحملة التي شنتها الصين في 2017 للقضاء على الإرهاب، بعد أن عانت المنطقة لمدة عقود من تمرد انفصالي لمجموعات إسلامية متشددة. ووجهت اتهامات للصين بقمع الأقلية الإيغورية، وإقامة معسكرات لغسل أدمغة الإيغور ودفعهم للتخلي عن دينهم، وإجبارهم على العمل قسرياً، والقضاء على ثقافتهم، وإبعاد أسر إيغورية عن بعضها، و«سرقة» الأطفال الإيغور.
وتنفي الصين هذه الاتهامات، وتقول إن تدابيرها للقضاء على الإرهاب كانت خاضعة للقوانين المحلية والدولية، وإنها معنية بالحفاظ على حقوق الإنسان وحرية المعتقد في شينجيانغ، وتشدد على أن المنطقة دخلت في تنمية اقتصادية متسارعة لجلب الازدهار، ورفع المستوى المعيشي للسكان.
لم تشهد المنطقة التي عانت من العمليات الإرهابية منذ عقود أي هجوم إرهابي منذ عام 2017، رغم ذلك استمرت الانتقادات من للأساليب التي اعتمدتها السلطات الصينية، لكن مع الوقت خصوصاً في السنتين الماضيتين أصبح اسم شينجيانغ مقروناً أكثر فأكثر بمشروع النهضة الاقتصادية، والتي يبدو أن السلطات المحلية والوطنية متمسكة بإنجازه، حيث حققت شينجيانغ نسبة نمو تصل الى 6.3 في المئة في عام 2023، واحتلت المرتبة الأولى في النمو بين المحافظات الصينية.
لماذا شينجيانغ مهمة؟
تتمتع شينجيانغ، أكبر منطقة إدارية في الصين، والتي تبلغ مساحتها حوالي 1.6 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل تقريبا مساحة فرنسا وإسبانيا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة، بأهمية جغرافية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الصيني لعدة أسباب:
• الموقع الاستراتيجي: تشترك شينجيانغ في الحدود مع ثماني دول، بما في ذلك روسيا والهند وباكستان والعديد من دول آسيا الوسطى. وهذا يجعلها بوابة لربط الصين وتجارتها مع آسيا الوسطى وصولاً حتى أوروبا، وقد أدى الموقع الاستراتيجي للمنطقة إلى تطوير البنية التحتية للنقل، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب، وتسهيل التعاون التجاري والاقتصادي.
• الموارد الطبيعية الوفيرة: شينجيانغ غنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والفحم والمعادن، وتعتبر هذه الموارد حيوية لأمن الطاقة والتنمية الصناعية في الصين، وتوفر مساحة الأراضي الشاسعة في شينجيانغ أيضا فرصاً للزراعة، وخاصة في إنتاج القطن والحبوب والفواكه.
• مبادرة الحزام والطريق (BRI): تعمل شينجيانغ كعقدة رئيسية في مبادرة الحزام والطريق الصينية الطموحة، والتي تهدف إلى تعزيز الاتصال وتعزيز التعاون الاقتصادي عبر آسيا وإفريقيا وأوروبا.
• التنوع العرقي والتبادل الثقافي: تعد شينجيانغ موطنا لمجموعات عرقية متنوعة ما يساهم في دورها كمفترق طرق ثقافي ويجذب الزوار والاستثمار في قطاعي الضيافة والسياحة.
لقاء مع «القيادة»
خلال جولتنا في شينجيانغ أجرى الوفد لقاء غير رسمي مع أمين لجنة الحزب الشيوعي الحاكم في منطقة شينجيانغ الإيغورية الذاتية الحكم ما شينغروي، وهو أرفع مسؤول في المنطقة، ورئيس حكومة منطقة شينجيانغ إركين تونياز، ومسؤولين من مختلف المستويات. وأشار ما إلى التحديات التي تواجهها المنطقة، مثل المناخ والجفاف، حيث تضم المنطقة صحراء تكلامكان التي تعد واحدة من أكبر الصحاري في العالم، لكنه شدد على الحرص على تحقيق التنمية عبر الاقتصاد الشامل.
ولفت إلى الإنجازات التي تحققت على المستوى الاقتصادي، واشتكى من الدعاية الغربية التي لا تزال نشطة ضد الصين، معتبراً أنه ليس هناك أي دولة سجلها ناصع في مسألة حقوق الإنسان، واستعان بعبارة للرئيس الصيني شي جينبينغ حول هذا الأمر يقول فيها: «ليست هناك طريقة فضلى... هناك فقط طرق أفضل من غيرها».
شارك الوفد في عدة محاضرات وندوات، بينها محاضرات تاريخية اضاءت على التاريخ المتنوع الاثني والديني لشينجيانغ والجذور التاريخية لتشكل قومية الإيغور. وإلى جانب الأديان المحلية، اعتنق سكان المنطقة، البوذية والإسلام، كما انتشرت في مرحلة ما على نطاق ضيق المسيحية النسطورية، وهي مذهب مسيحي سوري ـ عراقي.
وشدد المحاضرون على أن هذا التاريخ المتنوع كان أحد روافد صياغة مبدأ حرية المعتقد في شينجيانغ، الذي ينص على ضرورة حماية حرية المعتقد بما في ذلك حرية الالحاد، وضرورة أن تكون الدولة الراعية والضامنة لهذه الحرية. في محاضرات أخرى تم التطرق إلى ما تسميه السلطات الصينية حرب المعلومات، مفندة الكثير من التقارير والاتهامات الغربية باعتبارها أخبارا ًكاذبة.
في إظهار لحرص السلطات بتقديم خدمات عامة ذات جودة عالية، تم اصطحاب الوفد إلى مستشفى حكومي من المستوى الأول في مدينة كاشغر، والذي يضم مرافق طبية متطورة، أحدها مركز التشخيص عن بعد الذي يسمح بالوصول الى مناطق نائية، كما تفقد الوفد حضانة نموذجية في مدينة كورلا، تظهر اعتماد أفضل المناهج والأساليب التربوية الحديثة.
في المدينة نفسها، زار الوفد مركزا سكنياً للمتقاعدين، يقدم تسهيلات وأنشطة متنوعة لمن أنهى الخدمة العامة. وخلال تنقلنا بين ثلاث مدن رئيسة هي اورموتشي عاصمة المنطقة، وكاشغر أهم مركز سياحي فيها، وكورلا المدينة النفطية الحديثة التي تعرف كذلك بمدينة الإيجاص، كان بالإمكان ملاحظة مدى تطور الخدمات العامة، مثل الطرقات والساحات العامة.
التنويع والذكاء الصناعي
تسعى شينجيانغ الى تنويع اقتصادها للوصول الى الاقتصاد الشامل، فالقطاع السياحي ينمو باطراد. وفي عام 2023، زار شينجيانغ نحو 250 مليون سائح محلي وأجنبي. وقد رصدت «الجريدة» زيادة ملحوظة في غضون أشهر قليلة بالمرافق السياحية في كاشغر، التي تلقب بياقوتة طريق الحرير، والتي تضم مسجد عيدكاه التاريخي، أكبر مسجد في الصين، والمدينة القديمة التي تحولت الى مقصد سياحي بعد تجديدها.
وتؤمن شينجيانغ نحو 80 في المئة من حاجة الصين للقطن. وقد زار الوفد مصنعاً حديثاً للقطن، وكذلك مشروعاً رزاعياً يعتمد أحدث الوسائل التكنولوجيا الحديثة والذكاء الصناعي، حيث تقوم الدرون بمراقبة الآفات ورش المبيدات، ويعمل مركز للبيانات على رصد حالة التربة والمناخ لتحديد أفضل وقت للبذر والحصاد. وتفقد الوفد مزرعة للطاقة الشمسية في يولي تساعد في تأمين الطاقة النظيفة فيما تسعى السلطات للوصول الى الحياد الكربوني بحلول 2040.
وفيما تم تطوير الميناءين البريين الرئيسيين في شينجيانغ في مدينتي هورغوس وألاشانكو، واللذين تنطلق منهما أكثر من 7 الاف رحلة قطار شحن بين الصين وأوروبا، تفقد الوفد منطقة تجارية حرة في كاشغر، لاستيراد وتصدير السلع، تتمتع بمزايا خاصة مع مركز للتخليص الجمركي الشامل لتقليل وقت عبور البضائع.
5 ملاحظات
يمكن للمراقب تسجيل عدة نقاط توضح الأسباب التي تقف على الأرجح وراء هذا التمسك بتطوير شينجيانغ، وفيما يلي خمس ملاحظات استراتيجية قد تكون المحرك الرئيسي للجهود في شينجيانغ:
أولاً: نهوض شينجيانغ يضخ دماء في أروقة مبادرة الحزام والطريق مع ما تمثله المنطقة من بوابة برية لها وصلة بين شرق الصين وقلب آسيا.
ثانياً: نمو شينجيانغ سيكون له تأثير إيجابي على اقتصاد الصين الذي يواجه تحديات.
ثالثاً: أعادت الأزمتان في البحر الأسود والبحر الأحمر الاعتبار لطرق الشحن البري، ومن هنا يبرز دور متزايد لشينجيانغ كمركز تجاري مهم ونقطة عبور للبضائع من الصين وإليها.
رابعاً: زيادة الاهتمام بشينجيانغ يعكس الأهمية المتزايدة التي تبديها بكين لدول آسيا الوسطى المنتجة للطاقة، والتي تمثل سوقا استهلاكيا كبيرا، وذلك مع انحسار نفوذ روسيا التقليدي.
خامساً: وقوع معظم الحدود المتنازع عليها بين الصين والهند في محاذاة شينجيانغ يحتم على بكين الاهتمام ببناء اقتصاد قوي فيها لأسباب متعددة، بينها محاولة نيودلهي بناء مشاريع اقتصادية عملاقة في المنطقة الحدودية.