لقد قرع الهجوم الإرهابي الذي وقع في موسكو الشهر الماضي الجرس في بكين، خصوصاً أنه تزامن مع هجمات شنها الانفصاليون البلوش المتشددون، ضد مناطق باكستانية حيوية في الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني.
وزاد من اهتمام بكين أن منفذي الهجوم على قاعة كروكوس في العاصمة الروسية مهاجرون من طاجيكستان، التي تجمعها حدود مشتركة مع روسيا ومنطقة شينجيانغ شمال غرب الصين التي تسكنها الأقلية الايغورية المسلمة والتي كانت منذ عقود مسرحاً لحركة تمرد انفصالية قادتها مجموعات إسلامية متشددة، وقد شهدت هجماتها تصاعداً في فترة ما يعرف اصطلاحاً بالربيع العربي خصوصاً عام 2014 الذي سجل عدداً قياسياً في الهجمات.
وأظهرت العمليات الإرهابية الأخيرة في باكستان وموسكو إلى جانب ارتفاع في منسوب الأنشطة الإرهابية في عدة مناطق حول العالم، أن خطر الإرهاب قد يقفز مجدداً إلى واجهة الساحة الدولية.
تأتي التحذيرات العالمية من «استفاقة إرهابية» في وقت يشهد النظام العالمي فوضى وانهيارات في المنظومات والأعراف التي تحكمت إلى حد بعيد في العلاقات بين الدول منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد تجسد ذلك في غزو دول واقتحامات لسفارات وهجمات على مقار دبلوماسية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
وفي الوقت نفسه، يضع التنافس الجيوسياسي ضغوطاً وقيوداً على التنسيق الأمني والاستخباري والعلاقات العسكرية بين الدول، وقد رأينا سيناريو خطر هذا القصور، عندما فضلت موسكو، مدفوعة بتدهور علاقاتها مع واشنطن، تجاهل التحذيرات الأميركية من هجوم إرهابي وشيك على قاعة كروكوس للحفلات.
وتقول الصين إنها لا تزال تتعرض لحرب معلومات من قبل الولايات المتحدة والغرب منذ أن أطلقت عملية منهجية لاقتلاع الإرهاب من شينجيانغ قبل نحو 7 أعوام. ويشير المسؤولون الصينيون إلى أن الغرب يشن حملة تضليل ليس بين أهدافها حماية الأقلية الايغورية المسلمة.
ويعتقد هؤلاء المسؤولون ان الحملة الغربية هي مجرد سلاح في معركة على النفوذ، وأن شينجيانغ مفتاح طريق الحرير القديم ومفتاح الطريق البري لمبادرة الحزام والطريق، مستهدفة كونها بوابة دخول موارد الطاقة الى الصين من دول آسيا الوسطى كما أنها البوابة البرية لخروج البضائع الصينية إلى آسيا الوسطى ثم تركيا فأوروبا.
ولا يترك المسؤولون الصينيون مناسبة للتذكير بأنهم لن يتوانوا يوماً عن دحض الدعاية الغربية السلبية التي تنجح بالحد الأدنى في خلق تساؤلات، سواء لدى الرأي العام الغربي أو في العالم الإسلامي حيث من الطبيعي أن يتفاعل المسلمون بغضب لدى تعرض أي أقلية مسلمة للظلم أو القمع. لم يترك المسؤولون الصينيون طريقة لمواجهة ما يطلقون عليه السردية الغربية المعادية إلا واعتمدوها، حيث قدموا مئات الآلاف من الوثائق والبيانات والحقائق حول روايتهم لما جرى حقيقة في شينجيانغ.
ويمكن لأي باحث العثور على أطنان من هذه المعلومات الموثقة التي تظهر أن الكثير من جوانب الرواية الغربية يفتقر إلى الدقة، بل إن أجزاء أساسية من هذه الرواية قائم فعلاً على تضخيم ومبالغات لا يمكن أن تصمد بأي حال أمام الواقع.
وعلى مدى أعوام دعت الدولة الصينية والسلطات المحلية في منطقة شينجيانغ الآلاف من الوفود التي تضم صحافيين وإعلاميين وأكاديميين ومؤثرين من كل دول العالم إلى شينجيانغ لمعاينة الواقع والخروج باستنتاجات وخلاصات خاصة بهم حول ما جرى ويجري فعلياً هناك.
وللمرة الثانية في أقل من عام زارت «الجريدة» شينجيانغ بدعوة من السلطات المحلية.
وخلال الزيارة، قال مسؤولون صينيون من عدة مستويات ومحاضرون مختصون وخبراء إن الصين اعتمدت حلاً متعدد المستويات لاقتلاع الإرهاب.
فقد عززت نظام الحكم الذاتي في شينجيانغ حيث ينتخب السكان حكومتهم وسلطاتهم المحلية بأنفسهم لمعالجة أي مظالم سياسية. وقامت بإعادة تأهيل عشرات الآلاف من الشباب الإيغوري الذي وقع ضحية الخطاب المتطرف. وتشددت في تطبيق القوانين واللوائح ومنعت التسامح مع أي مخالفات خصوصاً فيما يتعلق بفرض وصاية على المجتمع من قبل أشخاص لا سلطة لهم للقيام بذلك.
ووضعت السلطات أطراً تشريعية واسترشادية لضبط آليات محاربة الإرهاب، مثل الكتاب الأبيض حول حرية المعتقد ويحوي منطلقات ضمان حرية المعتقد في شينيجيانغ، وقد تمت مراجعة قانون مكافحة الإرهاب الخاص بشينجيانغ في 2018، في وقت هناك أكثر من 10 قوانين ولوائح وطنية ومحلية تضبط الإطار القانوني لمكافحة الإرهاب.
وتم إطلاق خطة لا تزال مستمرة وقد حققت حتى الآن نجاحاً لتحسين اقتصاد شينجيانغ، للقضاء على الفقر الذي يعد بيئة منتجة وحاضنة للتشدد، وتحسين الخدمات العامة لسد أي ثغرة تسبب الحرمان الذي يحفز على التطرف، والحرص الشديد على حكم القانون لمعالجة غياب العدالة أحد محركات التشدد.
وجعلت الصين من تراث الإيغور الثقافي إرثاً غير مادي محمياً، وحولت هذا التراث بكل اشكاله إلى مصدر رزق لآلاف المسلمين الإيغور الذين اندمجوا في الدور السياحي الذي باتت تلعبه بامتياز أبرزها مدينة كاشغر الايغورية التاريخية بوابة دخول الإسلام إلى الصين. في المقابل، ركزت الغرب انتقاداته على معسكرات التأهيل التي عملت بنشاط على إعادة تأهيل عشرات آلاف الايغور قبل أن تقفل الصين آخرها في 2019.
وبحسب العديد من التقارير الغربية، فإن هذه المعسكرات كانت معتقلات تعذيب لغسل أدمغة الشباب الايغوري وكسر إرادته وإبعاده عن دينه، بينما تؤكد الصين أن الهدف منها كان التثقيف بمبادى الدستور الصيني والقوانين السارية وإعداد الشباب مهنياً لتحسين تراتبيتهم الاجتماعية.
وتؤكد التقارير الغربية أن الصين تضع قيوداً شديدة على الحياة اليومية للإيغور وحق ممارستهم للطقوس الدينية.
تنفي الصين كل ذلك وتقول أن وجود الكثير من المساجد واحتفال المسلمين بأعيادهم يدحضها.
لقد أصبح عمر حرب المعلومات هذه بين الصين والغرب أكثر من 7 سنوات واستخدمت فيها أحدث تكتيكات وأساليب التأثير على الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
لكن في خضم كل ذلك يمكن الإشارة إلى بعض الحقائق التي تقف على ارض ثابتة ومنها:
1 - لم تقع عمليات إرهابية ذات وزن في إقليم شينجيانغ منذ بدء تطبيق خطة مكافحة الإرهاب في 2017. وقد تراجعت القبضة الأمنية إلى حد كبير ويمكن لأي زائر أن يرى غالبية نقاط الشرطة في الأحياء والشوارع التي استحدثت في ذروة الأزمة قد أضحت خالية.
2 - لقد تحسنت الحالة الاقتصادية في شينجيانغ بطريقة ملحوظة وفق البيانات الوطنية والمحلية التي أظهرت أن الإقليم حقق نسبة نمو تصل إلى 6.8 في المئة في عام 2023 ليحتل بذلك المرتبة الأولى على مستوى أقاليم الصين.
3 - تم الارتقاء بالخدمات العامة في شينجيانغ ويظهر ذلك بشكل ملموس في القطاعات الاستشفائية والسكنية والمواصلات العامة وصيانة البنى التحتية وكافة المجالات التي تغطيها الخدمات العامة.
4 - على الصعيد الاجتماعي، لقد تعززت الحريات الفردية غير السياسية، وحظيت المرأة بالنصيب الأكبر من هذه الحريات ويمكن رؤية ذلك في الحضور الكثيف والواثق للايغوريات في سوق العمل.
6 - إن حكومات الدول المسلمة المسؤولة عن حاضر ومستقبل مئات ملايين المسلمين، وخصوصاً تلك التي خاضت أو لا تزال تخوض معركة مع الإرهاب، لا تتحدث عن تعرض الأقلية الايغورية لإبادة فعلية أو إبادة ثقافية، ولا تتبنى الاتهامات التي توجهها الحكومات أو وسائل الإعلام الغربية للصين.
7 - تآكل الثقة بالغرب فيما يخص البوصلة القيمية والأخلاقية، بما في ذلك لدى وسائل الإعلام الغربية، يخلق رد فعل مناهضاً لأي سردية غربية بغض النظر عما إذا كانت هذه السردية واقعية أو وهمية وهذا ينطبق إلى حد بعيد على حالة شينجيانغ.
أمام حقائق كهذه يجد المراقب المحايد نفسه أمام حاجة لإعادة صياغة الاسئلة أو ربما طرح اسئلة جديدة حول إمكانية الاستفادة من النموذج الصيني ومن إيجابياته في مكافحة الإرهاب.
واذا كانت الحرب على الإرهاب التي أُطلقت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 خلفت نتائج يجمع الكثيرون على أنها سلبية وغير فعالة خصوصاً في حالتي العراق وأفغانستان، فإن السؤال الأساسي الذي طرحه هذا المقال حول إمكانية أن يتحول النموذج الصيني في مكافحة الإرهاب إلى مرجعية، يصبح مشروعاً.