مدفوعة باندلاع الحرب في أوكرانيا، خرجت صناعة الأسلحة الفرنسية من سباتها بعد أن أعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إطلاق «اقتصاد الحرب» عبر دعم أكثر من 4000 شركة متخصصة في صناعة الأسلحة، وفتح أفرع لأهم الشركات العالمية في فرنسا، وفق ما أورد تحليل نشرته صحيفة (لوموند) الفرنسية.
واختفى مصطلح (اقتصاد الحرب) في فرنسا منذ الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، عندما أعلنت باريس آنذاك تعبئة عامة في مصانع الأسلحة لإمداد الجيوش التي دخلت في مواجهة شاملة مع ألمانيا، لكن ماكرون استعاد هذا المصطلح مجدداً خلال افتتاحه معرض (أوروساتوري) للأسلحة في يونيو 2022، أي بعد أشهر من الغزو الروسي لأوكرانيا.
وطالب ماكرون مصنعي الأسلحة بـ«التحرك بشكل أسرع والتفكير بشكل مختلف حول تصنيع المعدات الأساسية لفرنسا وحلفائها»، فيما أعلن وزير القوات المسلحة الفرنسي، سيباستيان ليكورنو في مارس الماضي عن إصدار أوامر للشركات ذات الأنشطة المدنية والعسكرية بإعطاء الأولوية لأنشطتها الدفاعية.
وسارعت عدة شركات فرنسية متخصصة في الصناعة التكنولوجية والدفاعية الفرنسية إلى مضاعفة إنتاجها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وأشرف ماكرون في هذا السياق على افتتاح توسعة لمصنع (يورنكو)، الرائد الأوروبي في صناعة القذائف والمتفجرات، بمدينة بيرغراك جنوب غرب فرنسا. وقال «نحن مقبلون على تغيير جيوسياسي دائم، حيث ستلعب الصناعات الدفاعية دوراً متنامياً»، داعياً إلى «التحرك بسرعة وقوة وصلابة».
واعتبر ماكرون أن شركة (يورنكو) تعمل في ظل «اقتصاد الحرب»، حيث سيبدأ الموقع الجديد في الإنتاج خلال 2025، وسينتقل، بحسب رئيسه تييري فرانكو، من 200 موظف في 2022، إلى 450 في 2025 مع استثمارات جملية بقيمة 500 مليون يورو.
في اليوم نفسه، رحب الرئيس التنفيذي لشركة (أريزيا)، وهي شريكة في (يورنكو)، برونو بيرثيت بطلبية مئات من القنابل التي يبلغ وزنها 250 كيلوغرامًا مخصصة للتصدير. ومولت الشركة خط إنتاج جديد، بعد أن تلقت دعماً من وزارة القوات المسلحة لتسريع عملية إنتاج هذه القنابل المتفجرة.
وأعطت (يورنكو) الأولوية إلى إنتاج قذائف عيار 155 ملم تطلقها مدافع ذاتية الدفع تم تسليمها إلى أوكرانيا، مع المركبات المدرعة، حيث تم خفض وقت إنتاجها من 30 إلى 15 شهرًا مع زيادة قدرتها الانتاجية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يرتفع الإنتاج السنوي لـ60 ألف قذيفة (KNDS) بنسبة 50 في المئة في عام 2024 ليتضاعف في 2025.
رؤية واضحة
من جهته، اعتبر وزير القوات المسلحة ليكورنو في نهاية شهر فبراير الماضي، أثناء زيارته لشركة (ديلير) المصنعة للطائرات بدون طيار والذخائر أن الشركة «نموذج لاقتصاد الحرب، وقادرة على الوفاء بالمواعيد النهائية وبأسعار معقولة»، لاسيما وأنها قد قامت بتسليم 100 طائرة بدون طيار و150 طائرة استطلاع إلى فرنسا، فيما أكد الرئيس التنفيذي للشركة، باستيان مانشيني، أنه سيتم تزويد فرنسا وأوكرانيا بـ2000 طائرة بدون طيار في الفترة 2024-2025.
بدورها، أعلنت شركة (ايغزل تكنولوجي)، المتخصصة في صناعة الأنظمة المضادة للألغام تحت الماء، عن طلبية بألف من وحداتها في أوروبا الغربية لأول مرة، فضلا عن انضمامها لمجموعة (جيوماين) لزيادة انتاج أنظمة إزالة الألغام في جميع أنحاء العالم، وخاصة في أوكرانيا، التي تم تفخيخ 40 في المئة من أراضيها.
من جانبها، خفضت شركة (تاليس)، المتخصصة في صناعة رادار (GM200) مدة الانتاج من 18 شهرا إلى 6 أشهر فقط، بينما أعلنت شركة (Safran) لصناعة قنابل (AASM) استعدادها لتعزيز منشآتها الإنتاجية.
وأكد الوزير ليكورنو أن الدولة «وضعت رؤية واضحة» أمام مجموعات الصناعات الدفاعية، حيث تركز الصناعة الفرنسية على المعدات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة، مستفيدة بطلبيات تزيد قيمتها عن 30 مليار يورو، بينها 20 مليار يورو مقدمة في عام 2023.
وأوضح أن نحو 4000 شركة ستستفيد من هذه الطلبيات، بينها 5 مليارات يورو لفرع طائرات الهيلوكبتر في شركة إيرباص، ومليار لمركبات (Arquus) المدرعة، و1.5 مليار لأحواض بناء السفن، و4 مليارات لشركة (Naval Group)، و5 مليارات لشركة (Dassault)، و3 مليار لشركة (MBDA) لصناعة الصواريخ، و1.5 مليار لـ(KNDS Nexter Systems)، و2 مليار لشركة (Safran) و6 مليارات لـ (تاليس).
وتعد قيمة هذه الطلبات قفزة إلى الأمام مقارنة بمبلغ 9.5 مليارات يورو سنويا في عهد فرانسوا هولاند و15 مليارا خلال فترة ولاية ماكرون الأولى.
لكن ماكرون دعا شركات الأسلحة إلى أن تخاطر بالاستثمار دون انتظار الطلبات، فيما أقر الرئيس التنفيذي لشركة (MBDA)، إريك بيرانجر أن هناك حالة طوارئ دفعت شركته لتسريع تصنيع صواريخ (أستر) بعيدة المدى، والتي تبلغ تكلفة الواحد منها مليون يورو، لاستخدامها في أوكرانيا والبحر الأحمر ضد المتمردين الحوثيين.
وأوضح بيرانجر أن شركة (MBDA) ستقوم خلال 5 سنوات باستثمار 2.4 مليار دولار، بعد أن قامت بتخزين 80 طنًا من الصلب، أي 15 ضعف استهلاكها السنوي العادي.
مكونات استراتيجية
غير أن وزير القوات المسلحة الفرنسي أقر بأن هناك بالفعل «اقتصاد حرب ذو سرعتين»، وأن عودة الحرب إلى الأراضي الأوروبية لم تحل صعوبات التوظيف في الشركات الصغيرة والمتوسطة في المهن المتوترة، ولا مشاكل الوصول إلى المواد الخام أو شراء المكونات الاستراتيجية، فضلاً عن إحجام البنوك عن دعم الأنشطة العسكرية التي لا تزال تتعرض للانتقاد.
ويعني «اقتصاد الحرب» أيضاً الاقتراب من ساحة المعركة، وهو المطلب الذي فهمه رجال الصناعة الألمان والبريطانيون بشكل أفضل منذ الحرب في أوكرانيا. وتبحث شركة (Delair)، التي تعمل في الأصل في القطاع المدني، عن شريك في أوكرانيا لإنتاج طائرات بدون طيار للاستخدام العسكري، فيما ستقوم (KNDS) الفرنسية - الألمانية بإنشاء فرع يتولى تدريب الأوكرانيين وإنتاج قطع الغيار لمعداتها بسرعة أكبر.
لقد علمت الحرب المصنعين درسا: احترام المواعيد النهائية، الذي أصبح عنصرا حاسما بالنسبة للعملاء. وأعرب الوزير ليكورنو عن أسفه قائلا «لقد خسرنا عقودا مع دول أوروبا الشرقية التي كانت سرعة التسليم بالنسبة لها أهم من السعر»، في إشارة إلى بولندا، التي وقعت عقدًا ضخمًا مع كوريا الجنوبية في عام 2022 لتوريد الدبابات والمدافع ذات العيار الكبير.